Search
Close this search box.

ــ 1 ــ الإمام زيد

 

ــ 1 ــ
الإمام زي


ـــــــــــــــــ
كان الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ــ رحمه الله ــ عالمًا محققًا، وفقيهًا ثبتًا أحكم علوم الشريعة إحكامًا جعله المرجع فيها، وكانت له شخصية قوية، وترفع عن سفساف الأمور ومطامع الدنيا واعتزاز بالعلم، وبما ينبغي أن يكون للعالم من كرامة، وقد نفع الله به الألوف من الطلبة الذين تلقوا علوم الشريعة عليه في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، كما نفع الله به عامة المسلمين عن طريق كتاباته ومؤلفاته العديدة والتي تتسم بسهولة أسلوبها والتمكن من المادة مع توخي الموضوعية والعدالة في المعالجة وعند إصدار الأحكام، كما كانت له وقفات أمام الحكام.
وكتابه “الإمام زيد” هو أحد الكتب التي أصدرها عن بعض أئمة الفقه مثل مالك وأحمد بن حنبل، وهو يكشف عن مذهبه في التاريخ، وفهمه لما تكون عليه كتابة السير ــ فليس هو بالمؤرخ الذي ينتهي علمه بما يمكن أن يقال عن الشخص المترجم له من أخبار او صفات أو أعمال ــ فإن هذا لا يمثل سوى أقل من نصف كتاب الإمام زيد (181 صفحة من 539 صفحة)، أما ما اشتمل عليه الباقي فهو فقه الإمام زيد، والمذهب الزيدي بصفة عامة، وهو أمر لا يمكن أن يتقصاه ويفصل فيه إلا الفقيه المحنك الذي ألم بأقطار الفقه وأحكم أصوله وفروعه ثم لا يميل مع هوى ولا يخشى في الحق لومة لائم، وبحكم هذا المنهج، فإن كتاب الإمام زيد يعطي القارئ صورة دقيقــة ومفصلة لحياة الإمام زيد من نشأته حتى استشهاده، ثم يأخذ به في مجالي الفقه الزيدي ويغوص في أعماقه حتى يدرك تمامًا أصول المذهب ووجوه الإئتلاف والاختلاف بينه وبين المذاهب الأخرى ونقط القوة والضعف وتصل دقة المعالجة وشمولها أن يلم القارئ بأصول المذاهب الفقهية الأخرى بحكم مقارنة المذهب الزيدي بها ولا يستطيع هذا إلا أستاذ متمكن وعالم محقق.
والإمام زيد ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ وهو فرع تلك الروحة النبوية العاطرة الطاهرة، وهو الشهيد السعيد الذي اتبع سُنة جده ــ سيد الشهداء ــ الإمام الحسين، ووالد جده فارس الإسلام وصفي الرسول الإمام علي بن أبي طالب ــ كرم الله وجهه ــ في الخروج على الظلمة، والحيلولة دون أن يتحكم البغاة في شئون الحياة ومصائر الناس لا يثنيهم عن ذلك قلة العدد أو احتمال الهزيمة لأنهم لا يطلبون على وجه التعيين “النصر”، وإنما هم يقومون بواجب لا مناص، ولا مفر منه، وسيكفل لهم على أي حال إحدى الحسنيين “الشهادة أو الانتصار”.
والإمام زيد هو ابن علي زين العابدين الذي أنجاه الله من أعدائه ليكون لهم حزنًا، وليتفرع منه العترة الطيبة، وهو الذي اتصف بالخلائق والشمائل التي دفعت الشاعر لأن يقول لا متكسبًا، أو مادحًا في قصيدته الطويلة:
هذا ابن خيــــــــر عباد الله كلهم هذا التـَـقــِّي التقي الطاهـر العلم
إذا رأتـــــــــــه قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكــــــرم
يُغْضي حياءً ويُغْضي من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتســـــــــــــم
ســهل الخلائق لا تخشى بوادره يزينه اثنتان الحـــــلم والكـــرم
وقد روي الإمام زيد عن علي زين العابدين وسعيد بن المسيب ونافع مولى عبد الله بن عمر وعكرمة مولى ابن عباس، وروي هو عن أبيه وجده وابن عباس وجابر وبعض أمهات المؤمنين وغيرهم.
وفي شخصية الإمام زيد ثلاثة جوانب جلاها الكتاب:
الجانب الأول: الفقيه الذي ألم بالفقه وزامل واصل بن عطاء وأخذ عنه أبو حنيفة بالإضافة إلى الفقه الشيعي وما يقوم عليه من أحاديث أهل البيت التي حرمها أو اقتضبها الفقه السُني التقليدي.
والجانب الثاني: رجل الدولة الذي يؤمن بالثورة على الظلم وإعادة الملك العضوض إلى ما كان عليه من خلافة رشيدة، تقوم على أسس استلهمها من فقهه الخاص وتميز بها على بقية المذاهب.
والجانب الثالث: الإنسان الذي لمس الظلم واكتوى به، وشاهد انتهاك الحقوق والحريات واغتصاب السلطات، فأخذت الثورة على الطغاة فيه طابعًا وهدفًا معينًا هو تحقيق العدالة وإشاعة الكرامة والأمن والطمأنينة بين الناس.
وبحكم هذه الجوانب لم يلزم الإمام زيد المدينة المنورة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، كما كان يفعل أهل البيت، ولم يسلك ما سلكه أبوه الذي كان يرى المصلحة في التقية حتى يقوى الأمر، ولم يقتصر على الفقه الشيعي، فذهب إلى العراق وتعرف على شعبه وعلمائه، وأبرزهم وقتئذ “واصل بن عطاء” رأس المعتزلة.
وخلال تعرفه على أهل العراق ولمسه لمظالم الأمويين اعتزم الثورة على الحكم الأموي، وكان الخليفة وقتئذ هو “هشام بن عبد الملك” ووالي الكوفة، حيث ثار زيد يوسف بن عمر، ولم يثنه عن ذلك ما حاولـه الناصحون، وما استشفوه من نكث وغدر، وكان حسبه أن يبايعه الناس البيعة التي وضع صيغتها: “إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسُنة نبيه ، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ورد المظالم ونصر أهل الحق.. أتبايعون على ذلك ” ؟ فإذا قالوا نعم وضع يديه على أيديهم وقال: “عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفين ببيعتي ولتقاتلن عــدوي ولتنصحن لي في السـر والعلانية”، فإذا قال البايع نعم، مسح يده على يده، وقال “اللهم اشــــهد”، وواضح من هذه الصيغة بروز فكرة العدالة والإنصاف.
قال ابن الأثير أن خمسية عشر ألف بايعوه، ولكن الذين نهضوا ــ عمليًا ــ للقتال معه لم يجاوزا مائتين وثمانية عشر رجلاً، وقيل نحو أربعمائة، وتصدى زيد بهذا العدد القليل لجيش جرار جرده هشام بن عبد الملك، وانتصرت الفئة القليلة حتى أصيب زيـد بسهم في جبهته وسقط شهيدًا، فتفرق الجمع وهزم أنصاره، وعمد يوسف بن عمر قائد جيش هشام إلى جثة زيد فنصبها على خشبه في كناسة الكوفة:
علو في الحيـــــاة وفي الممات لحق أنت إحـــــدى المعجزات
لم يضع دم زيد هدرًا، ولم ينل من منزلته الرفيعة أن يصلب “في كناسة الكوفة”، فقد كان هذا كله سـببًا في استحثاث الأحداث التي أودت بالخــلافة الأموية، ثم تناولتهم بعد عشرة أعوام من حي أو ميت بالعذاب والهوان.
وعندما استشهد زيد كان لـه من العمر 42 عامًا فقد ولد في سنة 80 واستشهد سنة 122، وهذا دليل على عبقريته وتوفيقه، فلم يكن بغيرهما ليستطيع أن يرسي أسس مذهبه، ودعائم دولته.
وكان لاستشهاده رنة أسى ولوعة حزن، قال عنه عبد اله بن الحسن بن الحسن شيخ أبي حنيفة ووالد محمد “النفس الذكية”، ” لم أر فينا وفي غيرنا مثله “، وجاء في مقاتل الطالبيين ” إن المرجئة وأهل النسك لا يعدلون بزيد أحدًا” وشبه أبو حنيفة خروجه بخروج الرسول يوم بدر وما منعه أن يخرج معه إلا موانع قاهرة، ولكنه أعانه بالمال، فأرسل إليه عشرة آلاف درهم “ومن جهز غازيًا فقد غزا”، وقال عنه أبو حنيفة: “شاهدت زيد بن علي، فما رأيت في زمانه أفقه منه، ولا أعلم، ولا أسرع جوابًا، ولا أبيَّن قولاً، لقد كان منقطع النظير”، وكانوا يقولون إن ثورته هي ثورة العلم والزهادة، وإن الذين قاتلوا معه كانوا من القراء والفقهاء، وكان سفيان الثوري إذا ذكر زيد بكي على ما فقده العلم بفقده، وقال بعض معاصريه: “كنت إذا رأيت زيد بن علي رأيت أسارير النور في وجهه”، فرحمه الله رحمة واسعة، ورضي عنه وأرضاه.
* * *
من أصول الفقه الزيدي:
أسهب الشيخ أبو زهرة ــ رحمه الله ــ الحديث في الفقه الزيدي على ما أشرنا إليه، ولاحظ أن أصول الفقه الزيدي “تقرر المناهج مجردة من غير محاولة أن تكون خادمة لفروع معينة، فليس طريق استنباطها الرجوع إلى فروع، بل هي مستنبطة استنباطًا منطقيًا، فهي موازين لا تتجه إلى الموزون، ولكن يتجه المستنبطون إلى ضبط الميزان في ذاته.
وجاء في الفصول اللؤلؤية للأصول الزيدية، وهو مخطوط بدار الكتب المصرية “وكيفية الاجتهاد في الحادثة أن يقدم المجتهد عند استلاله قضية العقل المبتوتة، ثم الإجماع المعلوم، ثم نصوص الكتاب والسُنة المعلومة، ثم ظوهراهما كعمومهما، ثم مفهومات الكتاب والسُنة المعلومة على مراتبها، ثم مفهومات أخبار الآحاد، ثم الأفعال والتقديرات كذلك، ثم القياس على مراتبـه، ثم ضروب الاجتهاد الأخرى، ثم البراءة الأصلية ونحوها”.
ويشرح الشيخ أبو زهرة، ويبدد ما قد يعلق بالذهن من شكوك لعدم وضوح هذا الإجمال فيقول: ” وإن هذا الكلام يستفاد منه أن قضايا العقل القطعية هي في المرتبة الأولى، كما أن الإجماع المتواتر المجموع به مقدم على نصوص القرآن الكريم والسُنة المتواترة والمعلومة، وقد يبدو الأمران غريبان، ولابد أن نزيل الغرابة فيهما.
فالعقل الذي يقدم على النصوص هو القضايا العقلية المقطـوع بها من حيث معرفة الله تعالى وإثبات نبـــوة محمد وكون القرآن من عند الله تعالى وأن محمدًا جاء بهذا الدين، وأن ما يقولـه عليه السلام هو من تبليغ رسالة ربه، فإن ذلك مقدم من حيث الترتيب المنطقي على الاحتجاج بالقرآن والسُــنة لأنه يقوم عليه إثبات صحة الاحتجاج بهما.
فالعقل يرجع إليه في الشرع إذا لم يكن ثمة أي طريق شرعي يرجع إليها وليس هذا داخلاً في قضية العقل المقدمة على النصوص والفرق بين حكم العقل في الموضعين من ثلاث نواح:
أولاها: إن قضية العقل المقدمة على النصوص هي قضية العقل المبتوتة، أي المقطوع بها التي لا تقبل نقضًا، وحكم العقل بحل أو تحريم إنما هو أمر ظني وليس بأمر قطعي.
الثانية: إن قضية العقل المقدمة هي ما يقوم عليه أساس الخطاب الإسلامي، وهو الإيمان بالله ورسوله النبي الأمي  الذي جاء بهذا الكتاب، والإيمان بالمعجزة، أما حكم العقل في التكليف، فهو متأخر عن الخطاب بشرع الإسلام، إذ هو بناء على ما جاء به الشرع فحكم العقل عندئذ غير خارج على ما جاءت النصوص بحيث لا يكون غريبًا عنها، فمثلاً إذا رأى بعقله إن في أمر فسادًا، ولم يجئ نص بالتحريم أو بالتحليل كان العقل حاكمًا بالتحريم، لأن الله تعالى لا يجيز الفساد، ولا يرضاه لعباده، وإذا رأى العقل في أمر مصلحة، ولا نص عليها، فإنه يحكم بأن الله تعالى يطالب بها، لأن الله تعالى رحيم بعباده، وكل مصلحة فيها رحمة، مادامت خالية من الفساد، ولا يترتب عليها فساد ولا موضع فيها لهما.
الثالثة: إن موضوع قضية العقل المقدمة هي ما يقوم عليه شرع الشرائع عامة، أما حكم المتأخر فهو حكم العقل في الوقائع الجزئية.
كما يفند المؤلف ما قد يظنه البعض من شكوك حول تقديم الإجماع على ما يقضي به القرآن الكريم والسُنة النبوية فيقول: “لقد ذكر صاحب الفصول اللؤلؤية أن الإجماع الذي ثبت في حقائق الإسلام الأولى التي تثبت بالتواتر عن النبي  تواتر عليها إجماع المؤمنين في عهد الصحابة لأنهم تلقوا ذلك عن النبي  وإجماع التابعين من بعدهم، لم يشذ أحد في العصر الأول الصحابي، ولا أحد في العصر التابعي، كإجماعهم على أن الصلوات خمسًا وكإجماعهم على أن صلاة الفجر ركعتان، والظهر أربع، والعصر والعشـاء كذلك، والمغرب ثلاث، وكإجماعهم على أن الصلاة المفروضة على هذه الهيئة التي وردت عن النبي ، وكإجماعهم على الصوم وأشكاله، وإجماعهم على الزكوات وعلى مناسك الحج، وغير ذلك من الأمور التي تلقاها الصحابة بالإجماع عن النبي ، فإن هذه موضع تسليم لا موضع اجتهاد، وهي الحقائق التي لا يصح لمجتهد أن يخالفها معتمدًا على ظاهر نص أو متعلقًا بظاهر أثر.
وليس تقديم الأخذ بهذه المسلمات على الاجتهاد في القرآن والسُنة تقديمًا للإجماع في حد ذاته على القرآن والسُنة، بل هو تقديم لأمر ثابت عن النبي  بطريق ليس لأحد أن يشك في نسبتها، فهو أخذ بأقوى سُنة وأخذ بأحكم ما يدل عليه القرآن من أحكام”.
ولا يتسع المجال لإيراد ما ذكره الشيخ إيضاحًا لبقية ما يأخذ به المجتهد، لأنه عالج ذلك معالجة تفصيل مكانه كتب الفقه.
بعض مزايا المذهب الزيدي:
رأينا الخاص أن في المذهب الزيدي من المزايا ما يحسن الأخذ به، وهو أيضًا رأي المؤلف، وتلك قضية تأخذ أهمية خاصة في الوقت الذي ترتفع فيه الصيحة بفتح باب الاجتهاد.
ومن هذه المزايا:
أولاً: في الناحية السياسية:
(أ) حل الإمام زيد جانبًا من المشكلة السياسية الجدلية التي ثارت ــ ولو من وجهة نظر الشيعة ــ حول خلافة أبي بكر وعمر وتخلف خلافة علي عنهما مع أنه في رأي الشيعة عمومًا، وبعض السلف أيضًا، أفضل ــ حلاً “ديبلوماسيًا” وأصوليًا سليمًا، يبرز سعة أفقه السياسي، فهو يرى أن الأمر في الخلافة ليس هو “الأفضل” ولكنه الأصلح وأن خلافة أبي بكر وعمر “فوضت إليهما لمصلحة رآها المسلمون وقاعدة دينية راعوها من تسكين ثائرة الفتنة وتطيب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريبًا وسيف أمير المؤمنين عليه السلام عن دماء المشركين من قريش لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل، ولا تنقاد له الرقاب كل الإنقياد وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عرفوا باللين والتودد والتقدم بالسن والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله . ألا ترى أنه لما أراد أبو بكر في مرضه الذي مات فيه تقليد الأمر إلى عمر بن الخطاب صاح الناس وقالوا “لقد وليت علينًا فظًا غليظًا، فما كانوا يرضون بأمير المؤمنين عمر لشدة وصلابة وغلظة في الدين حتى سكنهم أبو بكر”.
فزيد يقرر هنا أن الخلافة إنما تقوم على “الأصلح” الذي تتطلبه دواعي المصلحة وليس الأفضل، فلله درة من فقيه أريب استطاع أن يجمع بين الفقه والسياسة جمعًا موفقًا لا أمت فيه ولا التواء، ولا تعسف فيه ولا تطويع ويمكن أن يرضى الشيعة والسُنة على سواء.
وينبني على هذا الرأي أن لا تكون الخلافة بالوراثة، وإنما تتم بشورى المسلمين وأن لا يكون هناك عصمة للأئمة، لأن عصمة الأئمة عند الإمامية إنما جاءت مما تؤمن به من أن الخـلافة تكون بالوراثة في فرع أبناء فاطمة عن الحسين، كما استبعد الإمام زيد فكرة المهدوية والإمام المكتوم واقترب بذلك من أفضل مذاهب السُنة، بقدر ما ابتعد عما أزجى في مذاهب الشيعة.
ولما كان من أصول المذهب الزيدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد رفض السكوت على الظلم والاستسلام للأئمة الظلمة وأوجب الثورة عليهم، وقام زيد رحمه اله وابنه من بعده، ومن شايعه بذلك في فترات متفاوتة، وهذا المبدأ في السياسة يستبعد التقية التي أخذت بها الإمامية، ويمكن أن يُساء فهمها، كما أنه يتميز عما ذهب إليه بعض أئمة السُنة من إيثار الاستسلام على الفتنة، ما لم يرتكب الإمام “كفرًا بواحًا”، وفاتهم إن الظلم هو أكبر صور الكفر البواح، وبهذا خلص المذهب الزيدي من مأزق وقع فيه الإمامية وبعض أئمة السُنة.
وقد نقلنا عند الإشارة إلى حياته وثورته نص البيعة التي وضعها لمبايعة أنصاره، وبروز فكرة العدالة، وقد استمرت هذه الفكرة بارزة في صيغ أخرى وضعها أئمة الزيدية كالبيعة التي تمت للإمام الهادي عندما ولي اليمن وهو الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي الزيدي سنة 284 هـ ونصها:
“أيها الناس إني أشترط لكم أربعًا على نفسي الحكم بكتاب الله وسنة نبيه ، الأثرة لكم على نفسي فيما جعله بيني وبينكم، أوثركم فلا أتفضل عليكم، وأقدمكم عند العطاء قبلي وأتقدم عليكم عند لقاء عدوي وعدوكم والطاعة لأمري على كل حالاتكم ما أطعت الله، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم وإن ملت وعدلت عن كتاب الله وسُنة نبيه فلا حجة لي عليكم، فهذه هي سبيلي أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”.
ثانيًا: في الناحية الأصولية:
(أ) ذهب الإمام زيد في قضية مرتكب الكبيرة التي اشتجرت فيها الأقلام وتباينت فيها الأفهام منذ أن أثارها الخوارج، مذهبًا وسطًا لعله أمثل المذاهب.
فالخوارج ــ خاصة الأزارقة ــ كفروا من قال بالتحكيم وقضوا أن دار المخالفين دار حرب، وأن مرتكب الذنب، ولو خطأ، كافر، وأولاده كفار يباح قتلهم، أما الإباضية منهم فقد قالوا أنه (أي مرتكب الكبيرة) كافر كفر نعمة لا كفر إيمان، وأنه لا يباح إلا معسكر السلطان وذهب الحسن البصـري إلى أن مرتكبي الكبيرة المصرين عليها منافقون، بينما انقسم المرجئة قسمين، قسم خلع الربقة وقيود الأحكام وقالوا لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة، وقسم آخر قرر أن العاصي يستحق العقاب إلا أن يتغمده الله برحمته، وأمره راجع إلى ربه، وقد يطلق على هؤلاء مرجئة السُنة.
وقال واصل بن عطاء: أن مرتكب الكبيرة منزلة بين المنزلتين، وأنه فاسق مخلد في النار.
جاء زيد فقال: إن مرتكب الكبيرة بمنزلة بين المنزلتين ويسمى فاسقًا، ويسمى مسلمًا، ولكنه لا يخلد في النار وإنما يعذب على قدر ذنبه.
ويتبع هذه قضية أخرى تلحق بها هي زيادة الإيمان ونقصه، فهل الإيمان يزيد وينقص ؟ اختلف العلماء في ذلك “فبعض العلماء قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأنه التصديق والإذعان فلا يزيده العمل ولا ينقصه، فالأعمال ليست جزءًا من الإيمان، وبعض العلماء قال أنه يزيد ولا ينقص مادام قد حصل الإذعان والتصديق.
ولو أننا أردنا أن نأخذ من قول الإمام زيد في مرتكب الكبيرة رأيه في زيادة الإيمان ونقصه، لكان الرأي الوحيد هو أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص على معنى أن المعاصي لا تنقصه والطاعات لا تزيده، وعلى معنى أن الإيمان الصحيح يقتضي العمل حتمًا، فالعمل والإيمان متلازمان، فليس نظره كنظر أبي حنيفة الذي يقول أن الإيمان لا تنقصه المعصية ولا تزيده الطاعة لأنه حقيقة ثابتة في القلب، بل له نظر آخر، وهو أن الإيمان والعمل متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فمن لا يعمل عاص ومرتكب كبيرة.
(ب) وابتعد الإمام زيد في قضية القضاء والقدر عن الجهمية (أو الجبرية) الذين ينفون عن الإنسان أي إرادة وأنه “كالريشة في مهب الريح تحركها ولا تحرك نفسها ونسبة الأفعال إليه ليست على الحقيقة، بل هي كقول “مات زيد ونبت الزرع وجري الماء” أو القدرية الذي نفوا القدر بمعنى تقدير الله الأزلي في علمه المكنون بما يكون من العباد من خير أو شر، وقالوا إن الأمر أنف، أي أن علم اله تعالى بالأمر هو في وقت وقوعه”، نقول ابتعد الإمام زيد عن هذين الرأيين المنحرفين”، وانتهى الشيخ أبو زهرة إلى أن مذهب الإمام زيد في هذه القضية يقوم على ثلاثة أمور:
أولهــا: إن الإيمان بالقضاء والقدر لا يمنع حرية العبد ولا عموم سلطان الله تعالى وشمول قدرته.
ثانيهما: أن الله تعالى قد أودع الإنسان قدرة على الأفعال باختيارهم، فهم يفعلون بقوة مودعة أودعهم الله إياها وأنه القادر على ما أقدرهم عليه وأنه المليك لما ملكهم فإرادة الإنسان من خلق الله.
ثالثها: إن مشيئة العبد ليست مخالفة لمشيئة الله، فالله سبحانه وتعالى لا يعصي قهرًا عنه.
(حـ) وهناك قضية أصولية أخرى هي التحسين والتقبيح العقلانيان وقد ذهب كثير من علماء السُـنة إلى أنه لا تكليف إلا بالشــرع، وأن العقل لا يدرك حسنًا ولا قبيحًا إلا ببيان الشارع لـه، فلا حسن في الأشياء يعد ذاتيًا يدركه العقل من تلقاء نفسه فيجب عليه أن يفعله، ولا قبح في الأشياء يعد ذاتيًا فيجب بحكم العقل أن لا يفعله، وأن الأمور كلها إضافية وإرادة الله في الشرع، وفي كل شيء مطلقة لا يقيدها شيء، فهو خالق الأشياء، وخالق الحسن والقبيح وأوامره هي التي تحسن وتقبح ولا تكليف بالعقل، بينما ذهب المعتزلة إلى نقيض ذلك ورأوا أن الأشياء لها حسن ذاتي وقبح ذاتي، وأن العقول المجردة تدرك الحسن والقبــح للأشـياء، وبها يكون الإدراك ويكون معه التكليف، كما يكون هناك أمور مترددة بين الحسن والقبح، فإذا أمر الله تعالى بها فهي حـسنة، وإذا نهي الله سبحانه عنها فهي قبيحــة.
ونقل عن أبي حنيفة وطائفة من علماء الكلام أن للأشياء حسنًا ذاتيًا وقبحًا ذاتيًا، وأن الله تعالى لا يأمر بما هو قبيح في ذاته، ولا ينهي عن أمر هو حسن في ذاته وه يقسمون الأشياء إلى أشياء حسنة لذاتها وقبيحة لذاتها ومترددة بين الحسن والقبح، الأمر في التكليف والثواب والعقاب إلى السمع، فالله تعالى هو الذي يكلف وهو الذي يجازي من يكلفه بالخير أو لعذاب، وكل مجزي بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
ويقول الشيخ أبو زهرة: “إن ذلك هو الأقرب إلى رأي الإمام زيد، لأنه المنقول عن الزيدية، ولأنه رأي أبي حنيفة الذي تتلمذ للإمام زيد عندما جاء بالكوفة، ولأنه المعقول المعتدل في ذاته”.
(د) وأخيرًا فلابد من الإشارة إلى مذهب الزيدية في بقاء الاجتهاد وإعماله وإن كان هذا الاجتهاد محكومًا بالمذهب، ولكنه مع ذلك ينمي إلى المذهب ويكفل له الحياة والتفاعل، كما أنه يسمح بالأخذ من المذاهب الإسلامية الأخرى، فيما لم ينص عليه المذهب الزيدي، ولم يسوغ الزيدية للمفتي الزيدي أن يفتي إلا باجتهاد وإلا لم يكن فرق بينه وبين العامي، لأنه إن لم يجتهد كان حاكيًا لأقوال غيره والحكاية قد تجوز للعامي، وليس للمفتي *.

ــ 1 ــ
الإمام زيد
ـــــــــــــــــ
كان الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة ــ رحمه الله ــ عالمًا محققًا، وفقيهًا ثبتًا أحكم علوم الشريعة إحكامًا جعله المرجع فيها، وكانت له شخصية قوية، وترفع عن سفساف الأمور ومطامع الدنيا واعتزاز بالعلم، وبما ينبغي أن يكون للعالم من كرامة، وقد نفع الله به الألوف من الطلبة الذين تلقوا علوم الشريعة عليه في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، كما نفع الله به عامة المسلمين عن طريق كتاباته ومؤلفاته العديدة والتي تتسم بسهولة أسلوبها والتمكن من المادة مع توخي الموضوعية والعدالة في المعالجة وعند إصدار الأحكام، كما كانت له وقفات أمام الحكام.
وكتابه “الإمام زيد” هو أحد الكتب التي أصدرها عن بعض أئمة الفقه مثل مالك وأحمد بن حنبل، وهو يكشف عن مذهبه في التاريخ، وفهمه لما تكون عليه كتابة السير ــ فليس هو بالمؤرخ الذي ينتهي علمه بما يمكن أن يقال عن الشخص المترجم له من أخبار او صفات أو أعمال ــ فإن هذا لا يمثل سوى أقل من نصف كتاب الإمام زيد (181 صفحة من 539 صفحة)، أما ما اشتمل عليه الباقي فهو فقه الإمام زيد، والمذهب الزيدي بصفة عامة، وهو أمر لا يمكن أن يتقصاه ويفصل فيه إلا الفقيه المحنك الذي ألم بأقطار الفقه وأحكم أصوله وفروعه ثم لا يميل مع هوى ولا يخشى في الحق لومة لائم، وبحكم هذا المنهج، فإن كتاب الإمام زيد يعطي القارئ صورة دقيقــة ومفصلة لحياة الإمام زيد من نشأته حتى استشهاده، ثم يأخذ به في مجالي الفقه الزيدي ويغوص في أعماقه حتى يدرك تمامًا أصول المذهب ووجوه الإئتلاف والاختلاف بينه وبين المذاهب الأخرى ونقط القوة والضعف وتصل دقة المعالجة وشمولها أن يلم القارئ بأصول المذاهب الفقهية الأخرى بحكم مقارنة المذهب الزيدي بها ولا يستطيع هذا إلا أستاذ متمكن وعالم محقق.
والإمام زيد ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ وهو فرع تلك الروحة النبوية العاطرة الطاهرة، وهو الشهيد السعيد الذي اتبع سُنة جده ــ سيد الشهداء ــ الإمام الحسين، ووالد جده فارس الإسلام وصفي الرسول الإمام علي بن أبي طالب ــ كرم الله وجهه ــ في الخروج على الظلمة، والحيلولة دون أن يتحكم البغاة في شئون الحياة ومصائر الناس لا يثنيهم عن ذلك قلة العدد أو احتمال الهزيمة لأنهم لا يطلبون على وجه التعيين “النصر”، وإنما هم يقومون بواجب لا مناص، ولا مفر منه، وسيكفل لهم على أي حال إحدى الحسنيين “الشهادة أو الانتصار”.
والإمام زيد هو ابن علي زين العابدين الذي أنجاه الله من أعدائه ليكون لهم حزنًا، وليتفرع منه العترة الطيبة، وهو الذي اتصف بالخلائق والشمائل التي دفعت الشاعر لأن يقول لا متكسبًا، أو مادحًا في قصيدته الطويلة:
هذا ابن خيــــــــر عباد الله كلهم هذا التـَـقــِّي التقي الطاهـر العلم
إذا رأتـــــــــــه قريش قال قائلها إلى مكارم هذا ينتهي الكــــــرم
يُغْضي حياءً ويُغْضي من مهابته فلا يكلم إلا حين يبتســـــــــــــم
ســهل الخلائق لا تخشى بوادره يزينه اثنتان الحـــــلم والكـــرم
وقد روي الإمام زيد عن علي زين العابدين وسعيد بن المسيب ونافع مولى عبد الله بن عمر وعكرمة مولى ابن عباس، وروي هو عن أبيه وجده وابن عباس وجابر وبعض أمهات المؤمنين وغيرهم.
وفي شخصية الإمام زيد ثلاثة جوانب جلاها الكتاب:
الجانب الأول: الفقيه الذي ألم بالفقه وزامل واصل بن عطاء وأخذ عنه أبو حنيفة بالإضافة إلى الفقه الشيعي وما يقوم عليه من أحاديث أهل البيت التي حرمها أو اقتضبها الفقه السُني التقليدي.
والجانب الثاني: رجل الدولة الذي يؤمن بالثورة على الظلم وإعادة الملك العضوض إلى ما كان عليه من خلافة رشيدة، تقوم على أسس استلهمها من فقهه الخاص وتميز بها على بقية المذاهب.
والجانب الثالث: الإنسان الذي لمس الظلم واكتوى به، وشاهد انتهاك الحقوق والحريات واغتصاب السلطات، فأخذت الثورة على الطغاة فيه طابعًا وهدفًا معينًا هو تحقيق العدالة وإشاعة الكرامة والأمن والطمأنينة بين الناس.
وبحكم هذه الجوانب لم يلزم الإمام زيد المدينة المنورة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، كما كان يفعل أهل البيت، ولم يسلك ما سلكه أبوه الذي كان يرى المصلحة في التقية حتى يقوى الأمر، ولم يقتصر على الفقه الشيعي، فذهب إلى العراق وتعرف على شعبه وعلمائه، وأبرزهم وقتئذ “واصل بن عطاء” رأس المعتزلة.
وخلال تعرفه على أهل العراق ولمسه لمظالم الأمويين اعتزم الثورة على الحكم الأموي، وكان الخليفة وقتئذ هو “هشام بن عبد الملك” ووالي الكوفة، حيث ثار زيد يوسف بن عمر، ولم يثنه عن ذلك ما حاولـه الناصحون، وما استشفوه من نكث وغدر، وكان حسبه أن يبايعه الناس البيعة التي وضع صيغتها: “إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسُنة نبيه ، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسواء ورد المظالم ونصر أهل الحق.. أتبايعون على ذلك ” ؟ فإذا قالوا نعم وضع يديه على أيديهم وقال: “عليك عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفين ببيعتي ولتقاتلن عــدوي ولتنصحن لي في السـر والعلانية”، فإذا قال البايع نعم، مسح يده على يده، وقال “اللهم اشــــهد”، وواضح من هذه الصيغة بروز فكرة العدالة والإنصاف.
قال ابن الأثير أن خمسية عشر ألف بايعوه، ولكن الذين نهضوا ــ عمليًا ــ للقتال معه لم يجاوزا مائتين وثمانية عشر رجلاً، وقيل نحو أربعمائة، وتصدى زيد بهذا العدد القليل لجيش جرار جرده هشام بن عبد الملك، وانتصرت الفئة القليلة حتى أصيب زيـد بسهم في جبهته وسقط شهيدًا، فتفرق الجمع وهزم أنصاره، وعمد يوسف بن عمر قائد جيش هشام إلى جثة زيد فنصبها على خشبه في كناسة الكوفة:
علو في الحيـــــاة وفي الممات لحق أنت إحـــــدى المعجزات
لم يضع دم زيد هدرًا، ولم ينل من منزلته الرفيعة أن يصلب “في كناسة الكوفة”، فقد كان هذا كله سـببًا في استحثاث الأحداث التي أودت بالخــلافة الأموية، ثم تناولتهم بعد عشرة أعوام من حي أو ميت بالعذاب والهوان.
وعندما استشهد زيد كان لـه من العمر 42 عامًا فقد ولد في سنة 80 واستشهد سنة 122، وهذا دليل على عبقريته وتوفيقه، فلم يكن بغيرهما ليستطيع أن يرسي أسس مذهبه، ودعائم دولته.
وكان لاستشهاده رنة أسى ولوعة حزن، قال عنه عبد اله بن الحسن بن الحسن شيخ أبي حنيفة ووالد محمد “النفس الذكية”، ” لم أر فينا وفي غيرنا مثله “، وجاء في مقاتل الطالبيين ” إن المرجئة وأهل النسك لا يعدلون بزيد أحدًا” وشبه أبو حنيفة خروجه بخروج الرسول يوم بدر وما منعه أن يخرج معه إلا موانع قاهرة، ولكنه أعانه بالمال، فأرسل إليه عشرة آلاف درهم “ومن جهز غازيًا فقد غزا”، وقال عنه أبو حنيفة: “شاهدت زيد بن علي، فما رأيت في زمانه أفقه منه، ولا أعلم، ولا أسرع جوابًا، ولا أبيَّن قولاً، لقد كان منقطع النظير”، وكانوا يقولون إن ثورته هي ثورة العلم والزهادة، وإن الذين قاتلوا معه كانوا من القراء والفقهاء، وكان سفيان الثوري إذا ذكر زيد بكي على ما فقده العلم بفقده، وقال بعض معاصريه: “كنت إذا رأيت زيد بن علي رأيت أسارير النور في وجهه”، فرحمه الله رحمة واسعة، ورضي عنه وأرضاه.
* * *
من أصول الفقه الزيدي:
أسهب الشيخ أبو زهرة ــ رحمه الله ــ الحديث في الفقه الزيدي على ما أشرنا إليه، ولاحظ أن أصول الفقه الزيدي “تقرر المناهج مجردة من غير محاولة أن تكون خادمة لفروع معينة، فليس طريق استنباطها الرجوع إلى فروع، بل هي مستنبطة استنباطًا منطقيًا، فهي موازين لا تتجه إلى الموزون، ولكن يتجه المستنبطون إلى ضبط الميزان في ذاته.
وجاء في الفصول اللؤلؤية للأصول الزيدية، وهو مخطوط بدار الكتب المصرية “وكيفية الاجتهاد في الحادثة أن يقدم المجتهد عند استلاله قضية العقل المبتوتة، ثم الإجماع المعلوم، ثم نصوص الكتاب والسُنة المعلومة، ثم ظوهراهما كعمومهما، ثم مفهومات الكتاب والسُنة المعلومة على مراتبها، ثم مفهومات أخبار الآحاد، ثم الأفعال والتقديرات كذلك، ثم القياس على مراتبـه، ثم ضروب الاجتهاد الأخرى، ثم البراءة الأصلية ونحوها”.
ويشرح الشيخ أبو زهرة، ويبدد ما قد يعلق بالذهن من شكوك لعدم وضوح هذا الإجمال فيقول: ” وإن هذا الكلام يستفاد منه أن قضايا العقل القطعية هي في المرتبة الأولى، كما أن الإجماع المتواتر المجموع به مقدم على نصوص القرآن الكريم والسُنة المتواترة والمعلومة، وقد يبدو الأمران غريبان، ولابد أن نزيل الغرابة فيهما.
فالعقل الذي يقدم على النصوص هو القضايا العقلية المقطـوع بها من حيث معرفة الله تعالى وإثبات نبـــوة محمد وكون القرآن من عند الله تعالى وأن محمدًا جاء بهذا الدين، وأن ما يقولـه عليه السلام هو من تبليغ رسالة ربه، فإن ذلك مقدم من حيث الترتيب المنطقي على الاحتجاج بالقرآن والسُــنة لأنه يقوم عليه إثبات صحة الاحتجاج بهما.
فالعقل يرجع إليه في الشرع إذا لم يكن ثمة أي طريق شرعي يرجع إليها وليس هذا داخلاً في قضية العقل المقدمة على النصوص والفرق بين حكم العقل في الموضعين من ثلاث نواح:
أولاها: إن قضية العقل المقدمة على النصوص هي قضية العقل المبتوتة، أي المقطوع بها التي لا تقبل نقضًا، وحكم العقل بحل أو تحريم إنما هو أمر ظني وليس بأمر قطعي.
الثانية: إن قضية العقل المقدمة هي ما يقوم عليه أساس الخطاب الإسلامي، وهو الإيمان بالله ورسوله النبي الأمي  الذي جاء بهذا الكتاب، والإيمان بالمعجزة، أما حكم العقل في التكليف، فهو متأخر عن الخطاب بشرع الإسلام، إذ هو بناء على ما جاء به الشرع فحكم العقل عندئذ غير خارج على ما جاءت النصوص بحيث لا يكون غريبًا عنها، فمثلاً إذا رأى بعقله إن في أمر فسادًا، ولم يجئ نص بالتحريم أو بالتحليل كان العقل حاكمًا بالتحريم، لأن الله تعالى لا يجيز الفساد، ولا يرضاه لعباده، وإذا رأى العقل في أمر مصلحة، ولا نص عليها، فإنه يحكم بأن الله تعالى يطالب بها، لأن الله تعالى رحيم بعباده، وكل مصلحة فيها رحمة، مادامت خالية من الفساد، ولا يترتب عليها فساد ولا موضع فيها لهما.
الثالثة: إن موضوع قضية العقل المقدمة هي ما يقوم عليه شرع الشرائع عامة، أما حكم المتأخر فهو حكم العقل في الوقائع الجزئية.
كما يفند المؤلف ما قد يظنه البعض من شكوك حول تقديم الإجماع على ما يقضي به القرآن الكريم والسُنة النبوية فيقول: “لقد ذكر صاحب الفصول اللؤلؤية أن الإجماع الذي ثبت في حقائق الإسلام الأولى التي تثبت بالتواتر عن النبي  تواتر عليها إجماع المؤمنين في عهد الصحابة لأنهم تلقوا ذلك عن النبي  وإجماع التابعين من بعدهم، لم يشذ أحد في العصر الأول الصحابي، ولا أحد في العصر التابعي، كإجماعهم على أن الصلوات خمسًا وكإجماعهم على أن صلاة الفجر ركعتان، والظهر أربع، والعصر والعشـاء كذلك، والمغرب ثلاث، وكإجماعهم على أن الصلاة المفروضة على هذه الهيئة التي وردت عن النبي ، وكإجماعهم على الصوم وأشكاله، وإجماعهم على الزكوات وعلى مناسك الحج، وغير ذلك من الأمور التي تلقاها الصحابة بالإجماع عن النبي ، فإن هذه موضع تسليم لا موضع اجتهاد، وهي الحقائق التي لا يصح لمجتهد أن يخالفها معتمدًا على ظاهر نص أو متعلقًا بظاهر أثر.
وليس تقديم الأخذ بهذه المسلمات على الاجتهاد في القرآن والسُنة تقديمًا للإجماع في حد ذاته على القرآن والسُنة، بل هو تقديم لأمر ثابت عن النبي  بطريق ليس لأحد أن يشك في نسبتها، فهو أخذ بأقوى سُنة وأخذ بأحكم ما يدل عليه القرآن من أحكام”.
ولا يتسع المجال لإيراد ما ذكره الشيخ إيضاحًا لبقية ما يأخذ به المجتهد، لأنه عالج ذلك معالجة تفصيل مكانه كتب الفقه.
بعض مزايا المذهب الزيدي:
رأينا الخاص أن في المذهب الزيدي من المزايا ما يحسن الأخذ به، وهو أيضًا رأي المؤلف، وتلك قضية تأخذ أهمية خاصة في الوقت الذي ترتفع فيه الصيحة بفتح باب الاجتهاد.
ومن هذه المزايا:
أولاً: في الناحية السياسية:
(أ) حل الإمام زيد جانبًا من المشكلة السياسية الجدلية التي ثارت ــ ولو من وجهة نظر الشيعة ــ حول خلافة أبي بكر وعمر وتخلف خلافة علي عنهما مع أنه في رأي الشيعة عمومًا، وبعض السلف أيضًا، أفضل ــ حلاً “ديبلوماسيًا” وأصوليًا سليمًا، يبرز سعة أفقه السياسي، فهو يرى أن الأمر في الخلافة ليس هو “الأفضل” ولكنه الأصلح وأن خلافة أبي بكر وعمر “فوضت إليهما لمصلحة رآها المسلمون وقاعدة دينية راعوها من تسكين ثائرة الفتنة وتطيب قلوب العامة، فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريبًا وسيف أمير المؤمنين عليه السلام عن دماء المشركين من قريش لم يجف بعد والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل، ولا تنقاد له الرقاب كل الإنقياد وكانت المصلحة أن يكون القيام بهذا الشأن لمن عرفوا باللين والتودد والتقدم بالسن والسبق في الإسلام والقرب من رسول الله . ألا ترى أنه لما أراد أبو بكر في مرضه الذي مات فيه تقليد الأمر إلى عمر بن الخطاب صاح الناس وقالوا “لقد وليت علينًا فظًا غليظًا، فما كانوا يرضون بأمير المؤمنين عمر لشدة وصلابة وغلظة في الدين حتى سكنهم أبو بكر”.
فزيد يقرر هنا أن الخلافة إنما تقوم على “الأصلح” الذي تتطلبه دواعي المصلحة وليس الأفضل، فلله درة من فقيه أريب استطاع أن يجمع بين الفقه والسياسة جمعًا موفقًا لا أمت فيه ولا التواء، ولا تعسف فيه ولا تطويع ويمكن أن يرضى الشيعة والسُنة على سواء.
وينبني على هذا الرأي أن لا تكون الخلافة بالوراثة، وإنما تتم بشورى المسلمين وأن لا يكون هناك عصمة للأئمة، لأن عصمة الأئمة عند الإمامية إنما جاءت مما تؤمن به من أن الخـلافة تكون بالوراثة في فرع أبناء فاطمة عن الحسين، كما استبعد الإمام زيد فكرة المهدوية والإمام المكتوم واقترب بذلك من أفضل مذاهب السُنة، بقدر ما ابتعد عما أزجى في مذاهب الشيعة.
ولما كان من أصول المذهب الزيدي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد رفض السكوت على الظلم والاستسلام للأئمة الظلمة وأوجب الثورة عليهم، وقام زيد رحمه اله وابنه من بعده، ومن شايعه بذلك في فترات متفاوتة، وهذا المبدأ في السياسة يستبعد التقية التي أخذت بها الإمامية، ويمكن أن يُساء فهمها، كما أنه يتميز عما ذهب إليه بعض أئمة السُنة من إيثار الاستسلام على الفتنة، ما لم يرتكب الإمام “كفرًا بواحًا”، وفاتهم إن الظلم هو أكبر صور الكفر البواح، وبهذا خلص المذهب الزيدي من مأزق وقع فيه الإمامية وبعض أئمة السُنة.
وقد نقلنا عند الإشارة إلى حياته وثورته نص البيعة التي وضعها لمبايعة أنصاره، وبروز فكرة العدالة، وقد استمرت هذه الفكرة بارزة في صيغ أخرى وضعها أئمة الزيدية كالبيعة التي تمت للإمام الهادي عندما ولي اليمن وهو الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي الزيدي سنة 284 هـ ونصها:
“أيها الناس إني أشترط لكم أربعًا على نفسي الحكم بكتاب الله وسنة نبيه ، الأثرة لكم على نفسي فيما جعله بيني وبينكم، أوثركم فلا أتفضل عليكم، وأقدمكم عند العطاء قبلي وأتقدم عليكم عند لقاء عدوي وعدوكم والطاعة لأمري على كل حالاتكم ما أطعت الله، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم وإن ملت وعدلت عن كتاب الله وسُنة نبيه فلا حجة لي عليكم، فهذه هي سبيلي أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعني”.
ثانيًا: في الناحية الأصولية:
(أ) ذهب الإمام زيد في قضية مرتكب الكبيرة التي اشتجرت فيها الأقلام وتباينت فيها الأفهام منذ أن أثارها الخوارج، مذهبًا وسطًا لعله أمثل المذاهب.
فالخوارج ــ خاصة الأزارقة ــ كفروا من قال بالتحكيم وقضوا أن دار المخالفين دار حرب، وأن مرتكب الذنب، ولو خطأ، كافر، وأولاده كفار يباح قتلهم، أما الإباضية منهم فقد قالوا أنه (أي مرتكب الكبيرة) كافر كفر نعمة لا كفر إيمان، وأنه لا يباح إلا معسكر السلطان وذهب الحسن البصـري إلى أن مرتكبي الكبيرة المصرين عليها منافقون، بينما انقسم المرجئة قسمين، قسم خلع الربقة وقيود الأحكام وقالوا لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة، وقسم آخر قرر أن العاصي يستحق العقاب إلا أن يتغمده الله برحمته، وأمره راجع إلى ربه، وقد يطلق على هؤلاء مرجئة السُنة.
وقال واصل بن عطاء: أن مرتكب الكبيرة منزلة بين المنزلتين، وأنه فاسق مخلد في النار.
جاء زيد فقال: إن مرتكب الكبيرة بمنزلة بين المنزلتين ويسمى فاسقًا، ويسمى مسلمًا، ولكنه لا يخلد في النار وإنما يعذب على قدر ذنبه.
ويتبع هذه قضية أخرى تلحق بها هي زيادة الإيمان ونقصه، فهل الإيمان يزيد وينقص ؟ اختلف العلماء في ذلك “فبعض العلماء قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأنه التصديق والإذعان فلا يزيده العمل ولا ينقصه، فالأعمال ليست جزءًا من الإيمان، وبعض العلماء قال أنه يزيد ولا ينقص مادام قد حصل الإذعان والتصديق.
ولو أننا أردنا أن نأخذ من قول الإمام زيد في مرتكب الكبيرة رأيه في زيادة الإيمان ونقصه، لكان الرأي الوحيد هو أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص على معنى أن المعاصي لا تنقصه والطاعات لا تزيده، وعلى معنى أن الإيمان الصحيح يقتضي العمل حتمًا، فالعمل والإيمان متلازمان، فليس نظره كنظر أبي حنيفة الذي يقول أن الإيمان لا تنقصه المعصية ولا تزيده الطاعة لأنه حقيقة ثابتة في القلب، بل له نظر آخر، وهو أن الإيمان والعمل متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فمن لا يعمل عاص ومرتكب كبيرة.
(ب) وابتعد الإمام زيد في قضية القضاء والقدر عن الجهمية (أو الجبرية) الذين ينفون عن الإنسان أي إرادة وأنه “كالريشة في مهب الريح تحركها ولا تحرك نفسها ونسبة الأفعال إليه ليست على الحقيقة، بل هي كقول “مات زيد ونبت الزرع وجري الماء” أو القدرية الذي نفوا القدر بمعنى تقدير الله الأزلي في علمه المكنون بما يكون من العباد من خير أو شر، وقالوا إن الأمر أنف، أي أن علم اله تعالى بالأمر هو في وقت وقوعه”، نقول ابتعد الإمام زيد عن هذين الرأيين المنحرفين”، وانتهى الشيخ أبو زهرة إلى أن مذهب الإمام زيد في هذه القضية يقوم على ثلاثة أمور:
أولهــا: إن الإيمان بالقضاء والقدر لا يمنع حرية العبد ولا عموم سلطان الله تعالى وشمول قدرته.
ثانيهما: أن الله تعالى قد أودع الإنسان قدرة على الأفعال باختيارهم، فهم يفعلون بقوة مودعة أودعهم الله إياها وأنه القادر على ما أقدرهم عليه وأنه المليك لما ملكهم فإرادة الإنسان من خلق الله.
ثالثها: إن مشيئة العبد ليست مخالفة لمشيئة الله، فالله سبحانه وتعالى لا يعصي قهرًا عنه.
(حـ) وهناك قضية أصولية أخرى هي التحسين والتقبيح العقلانيان وقد ذهب كثير من علماء السُـنة إلى أنه لا تكليف إلا بالشــرع، وأن العقل لا يدرك حسنًا ولا قبيحًا إلا ببيان الشارع لـه، فلا حسن في الأشياء يعد ذاتيًا يدركه العقل من تلقاء نفسه فيجب عليه أن يفعله، ولا قبح في الأشياء يعد ذاتيًا فيجب بحكم العقل أن لا يفعله، وأن الأمور كلها إضافية وإرادة الله في الشرع، وفي كل شيء مطلقة لا يقيدها شيء، فهو خالق الأشياء، وخالق الحسن والقبيح وأوامره هي التي تحسن وتقبح ولا تكليف بالعقل، بينما ذهب المعتزلة إلى نقيض ذلك ورأوا أن الأشياء لها حسن ذاتي وقبح ذاتي، وأن العقول المجردة تدرك الحسن والقبــح للأشـياء، وبها يكون الإدراك ويكون معه التكليف، كما يكون هناك أمور مترددة بين الحسن والقبح، فإذا أمر الله تعالى بها فهي حـسنة، وإذا نهي الله سبحانه عنها فهي قبيحــة.
ونقل عن أبي حنيفة وطائفة من علماء الكلام أن للأشياء حسنًا ذاتيًا وقبحًا ذاتيًا، وأن الله تعالى لا يأمر بما هو قبيح في ذاته، ولا ينهي عن أمر هو حسن في ذاته وه يقسمون الأشياء إلى أشياء حسنة لذاتها وقبيحة لذاتها ومترددة بين الحسن والقبح، الأمر في التكليف والثواب والعقاب إلى السمع، فالله تعالى هو الذي يكلف وهو الذي يجازي من يكلفه بالخير أو لعذاب، وكل مجزي بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
ويقول الشيخ أبو زهرة: “إن ذلك هو الأقرب إلى رأي الإمام زيد، لأنه المنقول عن الزيدية، ولأنه رأي أبي حنيفة الذي تتلمذ للإمام زيد عندما جاء بالكوفة، ولأنه المعقول المعتدل في ذاته”.
(د) وأخيرًا فلابد من الإشارة إلى مذهب الزيدية في بقاء الاجتهاد وإعماله وإن كان هذا الاجتهاد محكومًا بالمذهب، ولكنه مع ذلك ينمي إلى المذهب ويكفل له الحياة والتفاعل، كما أنه يسمح بالأخذ من المذاهب الإسلامية الأخرى، فيما لم ينص عليه المذهب الزيدي، ولم يسوغ الزيدية للمفتي الزيدي أن يفتي إلا باجتهاد وإلا لم يكن فرق بينه وبين العامي، لأنه إن لم يجتهد كان حاكيًا لأقوال غيره والحكاية قد تجوز للعامي، وليس للمفتي *.
ــ 2 ــ