Search
Close this search box.

10 ــ خمسة أفكار يتقدم بها الإسلام إلى الغرب

ــ 10 ــ
خمسة أفكار يتقدم بها الإسلام إلى الغرب
ـــــــــــــــــ
(1) التصور الإسلامي للألوهية:
تتفق البحوث والدراسات منذ العصور القديمة على أن قضية “الألوهية” كانت شغلاً شاغلاً للناس سواء كان الأمر في مصر، أو العراق أو لدى الأوروبيين القدامى، ويتلاقى مع هذه النتيجة دراسات الانثولوجيا، كما تتفق دراسات المفكرين وعلى رأسهم أوجست كونت الذي جعل المرحلة الدينية، هي المرحلة الأولى من مراحل تطور المجتمع البشرى.
لم يكن من المستطاع لإنسان العصر القديم أن يتجاهل قضية الألوهية، ولكنه أيضا عجز عن التصور السليم لها، لأن درجة تقدمه حالت دون ذلك، ومن ثم كانت الوثنية هي التعبير الأول لها في الشرق كما أبدع اليونانيون ألهتهم الخاصة وأسكنوها “الأوليمب”.
وعندما ظهرت المسيحية وبشرت بإله واحد كان هذا أيضًا أصعب مما يمكن أن يستوعبه المجتمع البشرى الغارق في التعددية الوثنية، فظهرت صيغة ثلاثية – على غرار ما كان موجوداً في الديانات القديمة خاصة مدرسة الإسكندرية المتأثرة بالفكر اليوناني، وإلى حد ما بالتراث المصري، ومن هذا الباب شقت المسيحية طريقها، ولكن ذلك أضفى عليها طبيعة “لاهوتية” وأصبحت قضية الأقانيم الثلاثة لغزًا لا يقوى على حله إلا رجال الأكليروس المتخصصون وكان هو السبب في انشقاقات وحروب ومآسي عديدة.
وكان بنو إسرائيل استثناء، لأنهم من أقدم العصور آمنوا بإله واحد، ولكن المشكلة إن هذا الإله الواحد كان إلها خاصًا ببني إسرائيل وقد أهال مئات الامتيازات عليهم وجعلهم شعبه المختار، وأسلمهم أعناق الشعوب الأخرى، وتملكهم الغرور بحيث استعلوا، ليس فحسب على الشعوب الأخرى، بل حتى على إلههم الخاص، ووصل الصلف ببعضهم أن قالوا إنه ليس هو الذي اختارهم، ولكنهم هم الذين اختاروه، وإن إسرائيل صرع ملاك الرب، ومن ثم حمل هذا الاسم.
وبالطبع فإن مثل هذا الإله، وهذا الشعب لا يعنينا في قضية عن البشرية إلا إذا سلمنا بأول وأضيق صور العنصرية “وسيادة جنس على بقية الأجناس”.
ولم يكن الفلاسفة، وهم الذين يعتد بهم في الأمر – بمبعدة عن هذه القضية الفكرية الهامة وقاد المنطق السليم معظمهم إلى الإيمان بإله وخلصوا بالطبع من كل صور “التجسـيم” التي كانت قوام الوثنيات، وبهذا لم يعد لهذا الإله “جسم” واتفقوا أيضاً على أنه يمثل القدرة والكمال، وسار بعضهم خطوة فقال أنه خلق الكون والإنسان..، ولكنهم رفضوا بإصرار السير بعد ذلك. لأن أي خطوة كانت ستقودهم إلى العالم الغيبي للإله الذي يغرق أفكارهم ويستحوذ عليها، فكان الله بالنسبة لأرسطو حلاً منطقياً، ولما استبعدوا أن يكون له جسم ما، تغلب عليه الطابع التجريدي بحيث أن الفلاسفة رأوا أن دور “الله” قد انتهى بمجرد أن خلق الكون والإنسان، وأنه تركهما كما يترك الساعاتي القدير الساعة لتدور بانتظام، وبهذا خلصوا من عالم “الغيبية” وبحارها المتلاطمة التي تحول بينهم وبين طرائقهم في البحث.
وشيئاً فشيئاً توارى الله أمام خضم الدراسات والمناهج العلمية والوضعية.. الخ.
ومن كمال البحث أن نشير إلى فكرة الألوهية في الديانات الهندية والصينية، ولكننا نعترف بأن ما لدينا من مادة لا يمكننا من استخلاص النتائج بشكل ثابت.
* * *
ليس من المبالغة أو التحيز أن نقول إن الإسلام قدم أكمل تصور للألوهية، فالإسلام يرى أن الله تعالى هو خالق هذا الكون كله بما فيه من نجوم ومجرات وشموس.. الخ، وإنسان وحيوان.. الخ، دون أي تفرقه وأنه خلقه بقدر وأعجاز وحساب دقيق، وهو يستبعد كل آثار التجسيم أو أن يكون لله صورة أو شكل أو يمكن لأحد أن يراه.
وأن كانت الضرورات الأسلوبية التي تتفق مع إعجاز القرآن الكريم من ناحية، والتي تلحظ مستويات الفهم الإنساني جعلت القرآن يستخدم – وهو بصدد الحديث عن الله – ألفاظ “يد” أو “عين” أو أنه يجلس على العرش أو انه ينزل إلى السماوات الدنيا.. الخ، ولكن هذا نوع من المجاز، الذي استخدمه بالنسبة لمجالات أخرى، مما يؤكد مجازية التعبير.
وهذه نقطة هامة لأن القرآن الكريم يستبعد أي شائبة لتجسيم، ويتفق مع الفلاسفة في الصفة التجريدية لله، ولكن القرآن يختلف عن الفلاسفة في أنه يرى أن ليس مما يتعارض مع هذا التجريد أن يكون الله حياً، بصيراً، سميعاً، لأنه لو حرم من هذه لما كان إلا فرضاً فلسفياً، وقد استعظم المعتزلة أن ترد تعبيرات اليد، واللسان والعين في صدد الحديث عن الله، ولم يتصوروا أن يأتي زمان كالعصر الحديث يمكن أن يكون هناك كلام دون لسان. ورؤية دون عين وعمل دون يد.
ومنطق القرآن أنه من المستحيل أن يكون هناك إله للكون وللإنسان دون أن يكون هو نفسه حيًا، أو بمعنى أدق، أصل الحياة، وأنه من المستحيل أن يصل إبداعه سواء في حركة الأكوان أو جسم الإنسان إلى هذه الدرجة من المعرفة دون أن يكون أصل الحياة والقدرة والقيم والمعرفة، وقل مثل ذلك بالنسبة لبقية القيم من خير، أو حب أو جمال أو عدل.
أما كيف يمكن أن تتفق الأضداد من تجريد مع هذه الصفات الحية / العملية، فإن القرآن يوضح بكل صراحة ودون مواربة أن العقل البشرى يعجز عن التوصل إلى “ماهية” الله، وذات الله، وأن هذا العجز لا يعد نقصا في العقل البشرى وإنما هي طبيعة الأشياء، فالإنسان وأن كان أبرز الكائنات، أو حتى الكائن الوحيد، وهو فرض جدلي تمامًا، فإنه لا يشغل إلا كوكباً صغيراً لا يعد شيئاً مذكوراً في عالم الكون، وعقله مرتبط بطبيعة هذه الكواكب، وأن جهل الإنسان بشيء أو عجزة عن التوصل إليه لا يعنى أبداً عدم وجود هذا الشيء ما دام ما يتصف به الله لا يخالف في شيء أصول الأشياء وبداهة العقل.
وهناك أمران آخران يقررهما القرآن الكريم :
الأول: إن الإنسان، وإن لم يكن إلا مخلوقاً من ملايين المخلوقات، فإن الله تعالى جعله “خليفة” له على الأرض، وعلمه الأسماء كلها، وهو تعبير قرآني يقصد به مفاتيح المعرفة والثقافة ويختلف عن التعبير التوراتي الفج، كما ينفرد القرآن بإبراز نقطة هامة هي أن الله تعالى أمر الملائكة أن تسجد لآدم.
وما من تقدير لكرامة الإنسان يمكن أن تساوى هذا..
والأمر الثاني: إن الله تعالى وإن كان قديراً على أن يفعل ما يشاء بما يجاوز قدرة استيعاب عقل الإنسان، فإن الله لكي يُهيئ للإنسان التعايش على كوكبه، وفى مجتمعه، وضع مبادئ وأسس يسير عليها الكون والمجتمع البشرى، وألزم نفسه كرماً منه، بها بحيث يسير الكون على المبادئ التي يكشف عنها الله، يوماً بعد يوم، كما يلتزم بها المجتمع البشرى.
وهناك نصوص في القرآن الكريم تعطى هذا المعنى بقوة ووضوح مثل: (ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها( {11 المنافقون} وكذلك (إن الله لا يغير ما بقوم حتـى يغيروا ما بأنفسهم( {11 الرعد} فهنا نرى أن الله تعالى ربط مشيئته الإلهية بالأجل، وبعمل الناس.
* * *
في النهاية، فيغلب دائماً، خاصة بالنسبة للإنسان الأوربي – أن يقول وما جدوى الإيمان بالله، خاصة بعد ما ذكرت من ارتباط المشيئة بالأسباب ؟
الإيمان بالله يمكن أن يكون نقطة البداية وغاية النهاية في الحياة الإنسانية، وهو الذي يجعل للحياة محوراً تدور عليه، وغاية يُسعى لها، والله تعالى باعتباره أصل القيم فإنه يرسى مبدأ الموضوعية ويجعله الأساس، ويربط الذاتية بها، وهو الذي يلهم الإنسان القيم، ويعطى هذه القيم الصفة الموضوعية، فالحق المستمد من الله تعالى يختلف عن الحق في فهم البشر، إذ يجعله الفهم البشرى علاقة حقوق وواجبات تخضع لكل ما يخضع له فهم الحقوق والواجبات من مؤثرات ذاتية وأكاد أقول أنني لا أجد مرادفاً في اللغات الأوربية لكلمة “الحق” المصدرية والبعيدة عن نسبية الحقوق والواجبات التي أشار إليها القرآن وجعلها الأساس الذي أقام عليه السماء والأرض.
وقد يقرب إلى الذهن أن نقول أن المؤمن بالله يكون كعاشق لمحبوبة بلغت غاية الجمال يحس أعظم سعادة وهو يحدق فيها وإذا لامست أصابعه أصابعها تنتابه رعدة ما تشبه الكهرباء.
هذه النشوة التي يحسها العاشق، يمكن أن يحسها المؤمن عندما يستحضر في ذهنه الكمال الإلهي، والحكمة المطلقة، والجمال المبهر، فيحس بالأمن والأمان والرضا ويشبع كل التطلعات الروحية والنفسية.
إن أهمية الإيمان بالله هي أنه هو وحده الذي يحقق الإشباع الذي لا يمكن أن تحققه الملاذ العادية، فالأكل والشرب والاصطياف والرحلات، والعلاقات الجنسية كلها وأن كانت دون ريب تشبع حاجات عديدة ويمكن أن تجعل الحياة أكثر جمالاً ومتعة، إلا أنها تقضى على نفسها بنفسها ويأتي وقت وقد تغلب السأم، وعندئذ تظهر هذه الصور فقيرة مكررة، لأن اللحظة التي يتمتع بها ويستحوذ عليها هي اللحظة التي تنتهي فيها وتتلاشى هذه النشوة.
وقد يمضى العاشق لحظات طويلة من المتعة والنشوة وهو ينظر إلى وجه حبيبته ويسعد بالقرب منها، فإذا تزوج بها، انتهى هذا السحر لأنه أستحوذ عليها، والشيء الذي لا يمكن للإنسان أن يستحوذ عليه لأنه أعظم منه هو الله، ويظل الإنسان الذي يستحضر الله في قلبه سعيداً بهذا الاستحضار دون أن يكون في هذا شيء من الوهم أو الخرافة لأن العاشق الذي ينتشي برؤية حبيبته ثم يفقد هذه النشوة بالزواج مثلا ينم على أن في الإنسان شيء يجعل النشوة إنما تبقى وتستمر لأن الإنسان لا يمكن أن يستحوذ على مصدرها، وهذا ما لا يتأتى إلا لله تعالى وهو ما يميز الإيمان بالله عن علاقة العاشق لمحبوبته.
وقد يعطى الاستماع إلى موسيقى باهرة، أو قراءة شعر مؤثر الأحاسيس التي تسمو بالنفس، ولكنها تظل بعد هذا دون فكرة الله تعالى بمراحل، وما توحي للنفس الإنسانية به.
ومن الناحية الاجتماعية، فإن الإيمان بالله يضفي على السببية عقلاً وإرادة وحكمة وغاية، وهذا شيء بعيد كل البعد عن كلمة “الطبيعة” التي احلها الأوربيون محل الله، دون أن يخطر في بالهم هذه الطبيعة التي أحكمت الخلق في جسم الإنسان. وفى تكوين الكون الخ، هل لها عقل أم لا، فإذا كان لها عقل فإن الطبيعة تصبح مرادفاً فجًا فقيراً لما يقول عليه المؤمنون “الله” وإذا لم يكن لها عقل، فإني لها أن تبدع كل هذا الأحكام والدقة والكمال والعقول.
وبالنسبة للقيم الاجتماعية، فإن الإيمان بالله يمثل “الموضوعية” ويقضى على “الذاتية” التي هي آفة الفكر البشرى والتنظيم الاجتماعي بحيث تكون كرامة الإنسان مثلاً متاحة للفقير وللغنى وميسرة للأسود كما هي للأبيض، وهذا شيء يعسر دائماً – حتى على المشرعين – أن يلتزموا به، كما يقضى على الاغتراب بكافة أنواعه اغتراب الإنسان عن الكون اغتراب الإنسان في الوجود، اغتراب الإنسان عن بقية الناس، ويشيع محل هذا الاغتراب الفهم والرضا والإيمان، بل أنه يتحول إلى إعجاب، وإيمان.
من أجل هذا كله لا يعد الإيمان بالله سيطرة للغيبية على الواقع، غلبة للوهم على الحقيقة وإنما هو “ترشيد” و “استكمال” لما انتهى إليه الغرب من مذاهب ومناهج، بما يكفل الرضا للفرد والسلام للمجتمع.
(2) عدالة وضمير اليوم الآخر:
مع إن الإيمان بالله هو بالطبع الأصل في الأديان، فإن الإيمان باليوم الآخر يكتسب أهمية كبيرة، كما أن الإيمان به أصعب بمراحل من الإيمان بالله.
فالإيمان بالله قد يكون بديهيا من ناحية أن كل مخلوق لابد أن يكون له خالق، ولكن اليوم الآخر، أي وجود عالم آخر بعد الموت. يبعث فيه الموتى من القبور ويحاسبون على أعمالهم فكرة تستعصي على أذهان معظم الناس، ومع أن الأديان جميعاً قد أشارت إلى “يوم دينونة” وإلى عقاب وثواب ينفذه الله تعالى على المستحقين، إلا أن هذه الإشارات قليلة، مجملة، عامة، ولم يؤكد دين إلا الإسلام تأكيداً تاماً بعث الأجساد من القبور، ثم حسابها أمام ميزان دقيق يحصى الحسنات والسيئات ويصدر الحكم نتيجة لذلك. فهناك الجنة للذين أحسنوا وهناك النار للذين أساءوا.
إن الدين الوحيد – فيما أعلم – الذي يضاهى تأكيده لليوم الآخر تأكيد الإسلام هو الدين المصري القديم فهناك تشابه قوى في التركيز على اليوم الآخر وعلى الثواب والعقاب فيه، أما بقية الأديان فإن إشاراتها مجملة، ولم تكن محل تحقيق أو تدقيق لهذا كان الإيمان باليوم الآخر هو العقبة الكئود أمام الإيمان بالإسلام، وجاء رجل عربي وفى يده عظم رميم قائلاً للرسول أترى أن هذا العظم سيعود مرة أخرى إلى الحياة فلما قال له “نعم” ولى ساخراً.
والأغلبية العظمى من – الأوربيين هم من نوع هذا الأعرابي الذين لا يطيقون الإيمان ببعث بعد الموت “ويسخرون من كل من يدعى ذلك وهم كألاولين الذين وصفهم القرآن: (ما هي إلا حياتنا الدنيا، نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر( {24 الجاثية}.
والمعالجة المتأنية تظهر إن الأمر ليس كما يبدو للوهلة الأولى. أن الإنسان عندما يتحول إلى تراب فإنه يؤكد ما ذهبت إليه الأديان من أن الإنسان “خلق من طين ثم تطور بسلسلة من التطورات العديدة حتى أخذ شكله الحالي، وعندما يموت فإنه يتحلل إلى تراب يحمل آثاره الخاصة، ولا يصعب على قدرة الله أن يعيده مرة أخرى، وقد قلنا أن قدرة الله تجاوز قدرة البشر، وأن من الخطأ أن نقيس قدرته، أو طريقته، على طريقتنا أو قدرتنا، والفكرة وإن كانت عسيرة بمعاييرنا فإنها لا تخالف العقل، ونحن بعد نؤمن بأن المادة لا تفنى، وأن الوجود أدنى إلى العقل من العدم.
إن الفكر المادي لا يقدم بالنسبة لمستقبل البشرية وكوكب الأرض إلا الفناء، فبعد مدة لابد أن يأتي يوم تحترق فيه الأرض وتتفحم وتتهاوى شظايا وأشلاء تذروها الرياح، وهو المصير الذي ينتظر بقية الكواكب الأكبر فسيأتي يومها حتى لا تعد حياة أو وجود وإنما عدم كأن لم توجد في يوم من الأيام بشر، وحضارات وفنون، وعلوم.. الخ.
فهل هذا التصور العدمي أقرب إلى القلب والعقل من تصور يفترض وجود قوة تحلق، وتدير وتنظم الكون، وإذا انتهت هذه الحياة الدنيا فإنها تبث حياة آخره، أكثر تقدما، حياة سلام، ينضم لها حتى الذين عذبوا في النـــار جزاء ما اقترفوه من جرائم في الحياة الدنيا .
إن الغرض من وجود العالم الآخر، هو وجود محكمة عدالة تستكمل نقص محكمة الحياة الدنيا، وقد تستخدم وسائل لا تخطر بالبال كالتي أشار إليها القرآن.. عن حديث الأيدي والأقدام والجلود.. الخ، بما اقترفته، كما لا تقتصر على عقاب المسيئين، ولكنها تثيب المحسنين إن وجود مثل هذه المحكمة أمر لازم لكمال هيكل العدالة وبدونها فإن هذا الهيكل يهتز، خاصة وإن من المعروف أن محاكم الحياة الدنيا كثيراً ما تعجز عن الاقتصاص من الحكام الظلمة بل أنها قد تصدر الأحكام بتمجيدهم، فإذا لم يكن هناك محكمة عدالة شاملة كاملة تكافئ المحسن وتعاقب المسيء لما تحقق بناء العدالة أو كمل هيكلها وهذا أيضا من المبررات التي تتطلب وجود الحياة الآخرة.
لقد عمقت عقيدة “الدار الآخرة” أكثر من أي شيء آخر حاسة العدالة، وكانت هي بذرة الضمير، وقد سبق أن أشرنا إلى أن الديانة الوحيدة التي تماثل الإســــلام في هذا هي الديانة المصرية القديمة، ومن هنا فليس مما يثير العجب أن يسمى المصريولوجي المشهور بريستد كتابه عن حضارة مصر القديمة “فجر الضمير” Dawn of Conscience.
فعندما يؤمن الإنسان أن الموت ليس هو نهاية كل شيء وأن هناك حياة أخرى قد تكون ثوابا كما قد تكون عذابا تبعا لمحاكمة دقيقة عادلة عما قام به في الحياة، فإن هذا ولاشك يغير تصرفات وسلوك الإنسان، لأن من يرى أن ليس للإنسان إلا هذه الحياة الدنيا والسنوات التي يعيشها، وأن الموت هو نهاية كل شيء، فإن هذا يجعل الإنسان يستهدف الاستمتاع بكل طريقة، وتجنب كل صور العناء والمتاعب، وأنه إذا أمن ملاحقة القانون فإنه يستطيع أن يمارس ما يحقق به مآربه.. الخ.
وقد أثبتت التجارب أن فكرة “الواجب” كما صاغها فلاسفة أوربا وبوجه خاص “كانت” عجزت عن أن تعصم الأغلبية الكبيرة من إغراءات الشرور والشهوات وأن نجحت بالنسبة لقلة من الناس، كما أنها لا تأخذ الصفة الموضوعية فقد كانت ثمرة أنبتتها التربة الأوربية، وطبقت في التربة الأوربية بالأوروبيين وعلى الأوروبيين.
لقد استنكف بعض المفكرين الأوربيين فكرة الثواب والعقاب – خاصة بالصورة التي تقدمها الأديان جنة، ونار وأعرب ويل دورانت في الخاتمة التي وضعها لموسوعته “قصة الحضارة” عن عزوفه عن الصور التي رسمها الرسام القدير ميكيل أنجلو وصور فيها ملاكاً يقذف بالمخالفين إلى النار وربما كان الحذر من حدوث مثل ذلك من أسباب تحريم الإسلام تصوير مشاهد يوم القيامة، وقد قال كبار الصوفية إنهم يعبدون الله لا خوفاً من ناره ولا طمعا في جنته، ولكن إيماناً به وحباً له.
ولكننا إذا كنا أمناء مع الطبيعة البشرية لوجب علينا أن نسلم بأن رجاء الثواب وخوف العقاب هو أقوى عامل في تحقيق الانضباط الضروري للسير السليم للمجتمع، ولو لم يوجد لتطرق الخلل. وأن كانت الصور التي يأخذها الثواب والعقاب تتفاوت مع تفاوت مستويات الناس. وقد قال الشاعر العربي القديم:
والعبــد يقــرع بالعصا والحـر تكفيـه الإشـارة
ولما كانت الأديان تقدم للناس كافة فلا يجوز لنا أن نلومها، فهناك العديد من الناس تصل بهم القســوة واللامبالاة لأن لا يتأثروا بأقل من النار، أو أن يكون حبه اللذات دافعاً لكي يتجاوب مع جنة المسلمين.
وقد يظن أن هذا ليس هو الأسلوب الأمثل لتوجيه الناس، ولكن ليس أمام الأديان بديل آخر، خاصة وأن الجماهير بقدر ما تتعرف على هذا الأسلوب، بقدر ما ستتهذب حواسها، وقد يأتي يوم ينظر الفرد إلى مشاعره القديمة كنوع من الضلالة، أنقذه الدين منها، وقد لاحظ الإسلام في تقريره للحرام التدرج، فلم يحرم الخمر، والربا، والزنا مرة واحدة، ولكن على مراحل وقالت عائشة لو أن القرآن قال مرة واحدة “لا تشربوا الخمر، لا تقترفوا الزنا” لربما غلب العناد عليهم فقالوا لا ندع الخمر، ولا ندع الزنا.. الخ، ولكن الإسلام ترفق بهم بحيث جاء التحريم على مراحل متعددة كانت كل مرحله تهيئهم لما بعدها.
وكل من يتتبع تاريخ القانون يعلم أن القوانين في القرون الوسطى كانت في غاية القسوة، وقد قيل إنه كان يوجد أكثر من مائة ذنب يعاقب على كل منها بالإعدام في إنجلترا بما في ذلك مخالفة السير على جسر وستمنسر أو سرقة خمسة جنيهات الخ.. ويرى بعض الكتاب إن هذه العقوبات الصارمة كانت في أصل التزام الإنجليز بالقانون وابتعادهم عن المخالفات.
وفى العصر الحديث تحوط المواطن العقوبات فأي مواطن يقطف زهرة، أو يلقى بورقة في الشارع يعرض نفسه للعقوبة، أما مخالفات المرور فعقوباتها باهظة، وأما التهرب من الضرائب فإنها تقيل الوزارات وقد يكون خوف الموظف من أن يفقد وظيفته ويصبح “عاطلاً” إذا تكررت مخالفاته هو أكبر عامل في انضباط العمل، وإن رجاءه الترقي وزيادة المرتب أكبر عامل على التفاني في العمل.
إذن ليس في الثواب والعقاب ما يسئ إلى الأديان ولما كان هذا الثواب والعقاب إنما يتم في الدار الآخرة وليس فوراً أو عن طريق السلطة، فإن هذا غرس بذرة الضمير الذي يتحرك دون أن تكون هناك عقوبة أو مثوبة عاجلة.
(3) الأنبياء كأبطال وقادة:
يبدأ التاريخ الأوربي سياسيا وحضارياً مع اليونان، ثم الإمبراطورية الرومانية ثم عصر الرينسانس حتى نصل إلى مشارف العصر الحديث.
في خلال هذا التاريخ الطويل أعتبر القادة العسكريون والأباطرة هم أبطال المجتمع الذين يعدون القدوة والأسوة، ومنذ أن كتب “بلوتارك” كتابه “الأبطال” وقد تأثرت معظم القيادات الأوربية به بدرجة أو أخرى، وسيطر على فكر وسياسة بونابرت واستشهد به وهو يسلم نفسه للأسطول البريطانى (وقد كان استشهاداً خاطئاً).
حقًا أن الشعراء والفنانين يشغلون مكانه رفيعة وسامية وكان لهم تأثير على الأجيال، ولكن بدرجة أقل من قادة الجيوش وأباطرة الحكم.
وبالطبع فإن هؤلاء القادة يمثلون صفات القوة، والإرادة، والطموح، والتغلب على الصعوبات، وهى كلها في صميم القيم الأوربية ولكنها قد تكون بعيدة تماماً عن صفات الخير والحب والسلام والمساواة والرحمة.
والذين يمثلون هذه القيم الأخيرة هم الأنبياء.. وقد تكون أوربا معذورة إلى حد ما إذا لم تضع الأنبياء ضمن القادة والأبطال لأننا لا نعلم نبياً مشهوراً ولد وظهر في أوربا، وقد عبر ماركس عندما تحدث عن الدين كأفيون الشعوب – عن الدهشة التي تنتاب الأوربيين للأثر الكبير للدين في الشرق الدين (وأن كان هو نفسه بحكم أصله الإسرائيلي آخر من يعجب من ذلك)، ولكن حديث الأنبياء مع هذا لم يكن خافيا من موسى حتى المسيح، وأن كانت العداوات ما بين أوربا والإسلام أساءت إلى نبي الإسلام.
إن الإسلام يقدم الأنبياء بدأ من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد باعتبارهم الأبطال حقا الذين يستحقون أن يكونوا المُثل أمام القادة ورجال الفكر والعمل في المجتمع فهم القادة الذين دعوا الجماهير للإيمان بالله وترك عبادة الأوثان أو الأباطرة، وقادوا الجماهير في أعظم الثورات الشعبية، فقاد موسى قومه المستعبدين للخروج من مصر “أرض العبودية” وقاد المسيح عبيد روما ليقهروا الجبروت الروماني وحول محمد القبائل العربية المتشرذمة إلى أمة تحمل “الكتاب والميزان” – أي العلم والعدل – إلى الأمم المثقلة بالنظم الطبقية والأرستقراطية .
وهذه في الحقيقة أعظم الثورات التي قامت بها الشعوب في تاريخ البشرية ونحن لا نجد مثيلاً لها، في صدق جماهيريتها وفى نقاء قيادتها، وفى شمول أثرها واعتمادها على الإيمان القلبي، وليس الالتزام القسري إزاء السلطات.
وأهم شيء أنها تضع أمام القيادات نموذجاً لما يجب أن يكون عليه القائد من عفة وترفع، وعدم انسياق للشهوات، أو الخضوع للملق والمديح الذي يؤدى إلى الغرور القاتل، ومن المؤكد أن نابليون لو قرأ شيئاً عن محمد وتصرفه عند فتح مكة وعفوه من أعدائه القدامى، وكيف أن هذا العفو جعل أعداء الإسلام الأمس أكبر المناصرين له والمدافعين عنه أو لو عرف شيئاً عن فاتح القدس الرحيم أبو عبيده بن الجراح الذي يماثل في تقواه القديس لويس التاسع ويفوقه في سياساته الرحيمة إزاء المغلوبين فربما فكر نابليون وأتخذ سياسات تختلفت عما أخذها بالفعل استلهاماً لما فعل قيصر، أو أغسطس.. الخ.
وتصور فعلاً الآثار البعيدة المدى التي كان يمكن لسادة مؤتمر السلام الذي وضع معاهدة فرساي سنة 1919 بروح الغِل والانتقام من ألمانيا، لو استلهموا موقف محمد بن سادة مكة الذين تآمروا عليه وعذبوا اتباعه، فلما فتح مكة قال لهم “أذهبوا فأنتم الطلقاء”.
لقد كان من المحتمل لو أسُتلهم هذا المثال أن لا يظهر هتلر وأن لا تحدث الحرب العالمية الثانية وأن توفر البشرية أربعين أو خمسين مليونا قتلوا فيها.
(4) ثورية بلا دماء:
قامت الثورة الفرنسية سنة 1789 وأخذت من يومها الأول طابعاً إرهابيا عنيفا تطلب اختراع الجيلوتين ليمكن قطع الأعناق بطريقة آلية سريعة تفضل عمل السياف القديم، وكانت العربات تروح وتجئ من الصباح حتى المساء حاملة الضحايا الأبرياء لتقطع أعناقهم بينما يتسلى النساء بأعمال التريكو ويتناول الرجال شرابهم دون أن تنال من الجميع صيحة مدام رولان “أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك”.
ولم يأنف مؤرخو الثورة من أن يطلقوا على فترة حكم روبسبير ولم يكن القتل بالجيلوتين هو العقوبة الوحيدة التي ابتكرتها الثورة الفرنسية، فقد ابتكرت أيضا الموت بإغراق الضحايا، فضلاً عن صنوف أخرى عديدة من الاضطهاد داخل السجون تؤدى إلى الموت، أو تقف على مشارفه.
وقد كان أثر الثورة الفرنسية عميقاً على التاريخ الأوربي لما أحيطت به من مجد، ولما رفعته من شعارات، وفى هذا السبيل اغتفرت لها كل جرائمها وقيل إنها “شرعية ثورية”، بل وأصبح هذا التاريخ ميراثاً قومياً، وهون على القادة ارتكاب الجرائم.
ودفع لينين فكرة الشرعية الثورية إلى آخر المطاف، فقنن القضاء على الحرية وجعل من الضرورة البغيضة مبدءاً مقدساً “وشرع” استصفاء الخصوم واغتصاب المغتصبين، ووضع مبدأ “لا حرية لأعداء الشعب !” وهى كلها شعارات تصب في سلطة الحاكم..
واعتبر التكتيك اللينيني مبدأ مقدساً تطبقه كل الثورات الماركسية من أوربا حتى الصين، وحتى السودان، وسالت الدماء أنهاراً وفتحت المعتقلات على مصراعيها لتستقبل كل المعارضين.
وعلى يدي لينين تتلمذ هتلر وموسوليني وطبقا نظامهما الثوري الشنيع..
وعلى خطى هؤلاء جميعاً سار الضباط والعساكر الذين قاموا بالانقلابات العسكرية في الشرق الأوسط أو أمريكا اللاتينية.
وحدث هذا كله لأنه ليس لدى أوربا معرفة بسوابق ثورية تبرأ من هذه اللوثات، في حين إن الإسلام قام بأعظم ثورة دون انتهاك للشرعية، ودون أراقه دماء.
وقد وضع الإسلام مبدءاً فريداً هو أن الإسلام يَجُب ما قبله. فما أن يؤمن أعتى الأعداء حتى يستقبل استقبال الأخوة وتطوى صفحة عداوته كأن لم تكن. وقد يكون هذا المسلم ابنا لأكبر أعداء الإسلام فيقبل ولا يحاسب ولا يعير بأبيه، ومن هذا الطريق كسب الإسلام أعظم أعدائه.. خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبى جهل.
لما كان الهدف من رسالة الإسلام هو بتعبير القرآن الكريم “أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور” فإن ثورته كانت ــ كالنور ــ بيضاء ــ كانت تقوم على الكلمة، وعلى الضمير، وتعزز قيم الشرعية، ولا تسمح بانتهاكها بأي ذريعة.
ومن أعجب المفارقات أن أحيط بالإسلام شبهة القتال والجهاد و “السيف” والحقيقة أن الحرب لم يُؤذن بها إلا بعد أن وصل الاضطهاد أعداء الإسلام إلى حد “فتنة” المؤمنين أي إرغامهم على ترك الإسلام. عندئذ فحسب أذن الله تعالى للمؤمنين بدفع هذه الفتنة بالقتال كما هو واضح من أول آية سمحت بالقتال فالقتال في الإسلام كان قتالاً في سبيل حرية العقيدة وليس في سبيل فرضها، وليس أدل على ذلك من أن الجيوش الإسلامية المنتصرة لم ترغم أحداً على ترك دينه واعتناق الإسلام بل كانت الأوامر لديها من الرسول ( ومن الخلفاء الراشدين تقضى بحماية الكنائس والصوامع والأديار وعدم قتل الكهان ورجال الدين، وقد كانت أوربا هي التي أبدعت القتال لإرغام الشعوب على اعتناق المسيحية وتاريخها حافل بذلك بل أن حربها أمتد ليشمل المذاهب المسيحية غير الكاثوليكية المقررة، أو حتى البيزنطية، وقد عُذب أقباط مصر على أيدي المسيحيين في بيزنطة عذابا بشعاً وهذا شئ لا يعرفه الإسلام لا بالنسبة لغير المسلمين، ولا بالنسبة لما بين المذاهب والشيع الإسلامية كما كان من المحرم على الجيوش الإسلامية بمقتضى أوامر الرسول والخلفاء أن يسلبوا أو ينهبوا وكان عليهم أن يشتروا كل مؤنهم وغيرها، وحرم عليهم كذلك إحراق البيوت أو قطع الشجر.. الخ، وبعض هذه الأوامر لم يتبع فيما بعد النبي والخلفاء، ولكن ذلك لا يحسب على الإسلام، وأنا على الذين اقترفوه..
وعندما ثار على الخليفة الرابع الإمام على بن أبى طالب – فرقه من جيشه – وانخذلوا في حميم المعركة، واعتزلوا الجيش وسيوفهم على عواتقهم حتى استقروا بحروراء تركهم الإمام على ولم يقربهم حتى قتلوا بعض المسلمين فطلب منهم تسليم القاتل فقالوا “كلنا قتله!” وحتى عندئذ فإنه أعلن قبل أن يدخل معهم في قتال أنه يسمح لمن يشاء أن يعتزل دون أن يمسه أذى.
وقد بسط الإسلام سيادته على شبه الجزيرة العربية واضطر لدخول عدد من المعارك الدفاعية، أورداً على نقض العهود” لم يبلغ قتلاها بضعة مئات، ولم يحدث أبداً نهب أو سلب باستثناء ما يغنمه الجيش من سلاح أعدائه، في حين كانت الجيوش الرومانية المنتصرة تبيح لجنودها المدن المنهزمة لتعيث فيها نهبًا وسلبًا وغصبًا.
ويعود هذا بالدرجة الأولى إلى الطابع الأخلاقي للدين، فما لا يتسق أن يدعو الدين إلى الفضيلة وأن ينهمك دعائه في الرذيلة أو النهب والظلم.. الخ، أما الثورات السياسية التي عرفتها أوربا فإنها استهدفت السلطة وحتى عندما أرادت أنصاف المظلومين فإن هذا حدث بظلم الظالمين، ولا يمكن أن يقوم عدل على ظلم، ولو كان للحاسة الأخلاقية عمق في الثورات الأوربية لكان من المحتمل أن تبذل هذه الثورات جهداً لكي تنصف المظلومين دون أن تظلم الظالمين بما قد يفوق ظلمهم، فقد اغتصبوا أموالاً فجاءت الثورات وحرمتهم من الحياة نفسها وكان يمكن أن تعيد إليهم ما أغتصب منهم. ولكن هذا ما كان يمكن أن يحدث لأنه يناقض فكرة القوة التي قامت عليها الحضارة الأوربية وجعلتها تقرر وتتقبل نظرية “الشرعية الثورية” التي قامت عليها الثورة الفرنسية، كما قدمنا، والأقرب هو أن تأخذ بمبدأ “الإرهاب بالجملة” الذي أخذه مجلس السوفيت عندما قرر القيام بثورة أكتوبر.
لقد كان أعظم فتح في تاريخ الإسلام هو فتح المدينة، وقالت عائشة “فتحت المدينة بالقرآن”، لأن الرسول أرسل إليها مصعب بن عمير ليعلم المسلمين القلائل بها القرآن، ونجح مصعب بن عمير حتى فشا الإسلام في المدينة، وبهذا فتحت بالقرآن، دون سيف أو سنان، وعلى أساس هذا الفتح قامت كل الفتوح.
إن ثورة الإسلام، التي كانت في حقيقتها ثورة القرآن – تقدم نوعاً من الثورات تحذر الدماء وتبقى على الحقوق، وتعزز الشرعية وتقاوم كل انتهاك لها، وتصل إلى أهدافها بالحكمة والموعظة الحسنة أنها تحقق ثورة من نوع جديد، والإسلام ليس بدعاً بين الأديان، فكل الأديان لابد وأن تسلك هذا المسلك وما يميز الإسلام هو أنه أعلا درجة أخذتها الثورية الدينية لتحقيق ثورة، ولكن دون دماء.

(5) في مواجهة الشطط:
قيل الكثير عن الحضارة الأوربية بين أنصارها وخصومها، ويمكن القول أنها من أعظم – وأن لم تكن أعظم – الحضارات التي شاهدتها البشرية، وقد استخدمت الحرية باليمين والعلم بالشمال فطاراً بها إلى آفاق لم تكن البشرية تتصورها إلا في الأحلام، وقد أوجدت أضعاف أضعاف مغارة علاء الدين وتفتح دون حاجة إلى “أفتح يا سمسم” وحققت للإمبراطور المجنون كاليجولا حلمه فى أن يصل للقمر. ومكنت للعاملة أن تستمتع بما لم تكن تستمتع به “بوبيا” زوجة نيرون التي كانت تصطحب في موكبها 300 إتان لتستحم بلبنها إن العاملة الأوربية أو الأمريكية تجد في حمامها ما يفضل ما كان لدى الإمبراطورة، وتلبس من جوارب النايلون، ومن أحذية الكعب العالي.. الخ، ما لم يكن متاحاً، كما إن هذه الحضارة فتحت الباب أمام الفلاسفة والعلماء والمخترعين والفنانين.. الخ، ومكنت الجماهير أن تشاهد الأوبراً ورقص البالية الذي لم يكن يشاهده إلا الأرستقراطية الأوربية وحققت للبشرية بصفة دائمة ومنهجية ما لم يتمتع به سليمان الحكيم إلا على أساس المعجزة – بساط الريح.
ولكن لكل شئ ثمنه، أن هذا النجاح الفائق قد أسكر أوربا بما هو أقوى من أي خمر، وجعلها تمضى قدماً، لأنه لا شئ ينجح مثل النجاح، وكان كل باب تفتحه يكشف لها بعُداً جديد ويفتح لها أبوابًا عديدة وهلم جرا، ولما كان نهم الاستمتاع – لأن الاستماع هو الهدف الأعلى – لا يقف عند حد، فإن عجلة الإنتاج لا تتوقف، ووراء ذلك جيوش جرارة من العاملين وإدارات ممرسة، وآلاف الملايين من الأموال وأطقم وقيادات إدارية تقتسم أسواق العالم، باختصار إن استحثاث السير أصبح هو “النسق أو الطابع العام لحركة الحضارة”، وأصبح من المفروض أن يأتي كل يوم بأنماط جديدة من المآكل والمشارب ووسائل الاستمتاع، وبقدر ما يستوعبها الإنسان الأوربي، بقدر ما يصبح عبداً مدمنا لها.
لقد أصبح الشطط هو السوءة الأولى للحضارة الأوربية: الشطط في الطعام، الشطط في الشراب، الشطط في الاستمتاع الجنسي، الشطط في الإنتاج، إن زمام الحضارة الأوربية أصبح في يد شيطان الشطط.
هل يمكن إيقاف هذا الشطط ؟ هل يمكن إعطاء الآلات أجازه لمدة شهر كل سنة ؟ يُعطى فيها عمالها أجورهم ويستريح السـوق من تخمته ؟
هيهات
إن هذا يتناقض مع المثل والقيم التي قامت عليها وامتزجت بها الحضارة الأوربية..
ولو كان لدى أوربا ثقــة في “حوار الحضارات” أو كانت مستعدة للتنازل عن عليائها والإفادة من الآخرين لوجدت في فكرة “الوسط” و “القصد” ما ينقذها من ورطتها.
إن الإسلام يجعل أمة المسلمين “أمة وسطا” كما يجعل المسلك الأسمى للمسلم هو “القصد” وهذان يبعدان المسلم – فرداً ومجتمعاً – عن السرف والشطط والاندفاع ويلزمانهما حدود الأمان ويسرى هذا على العبادة كما يسرى على شئون الحياة الدنيا وآدابها.
إن في كل أله تسير – كما يعلم ذلك كل واحد – أداة للانطلاق وزيادة الزيادة، وأداة أخرى للوقوف وتقليل السرعة.
ولكن أله الحضارة الأوربية، ليس لديها أداة للتوقف وكبح الجماح، وعليها أن تقتبسها من الإسلام.
وفى العبادات الإسلامية “صوم رمضان” وهو الصيام عن الطعام والشراب والتدخين طوال النهار من الفجر حتى الغروب وما أحوج أوربا أن تجعل آلاتها تصوم شهراً كل سنة.
إن انعكاسات الشطط لا تقف عند الجانب المادي رغم أن انعكاساتها على هذا الجانب عميقة، ولكنها أيضا تمتد إلى الجانب النفسي، لأنها تشعر الإنسان بالغرور والزهو، وأنه أصبح على كل شيء قدير، ولا يمكن أن تقف قوة أمامه، ومن شأن هذا الغرور أن يوقع الإنسان في مزالي قد تتورط فيها الدولة نفسها، وأوجه النظر إلى ثلاثة أمثله لهذا الغرور القومي ففي سنة 1878 تملكت الحماسة الجمهور البريطاني تجاه سياسة بريطانيا التي كانت تساند تركيا ضد روسيا. وأثمرت هذه الحماسة نشيد الجنجو Jingo الذى يقول:
We’ve got the ships
We’ve got the men
We’ve got the money too
على أن هذه الحماسة تبدو فقيرة وشاحبة أمام السياسات العدوانية الباطشة التي تمارسها إسرائيل تجاه انتفاضة أطفال الحجارة، إذ نسلط على هؤلاء الأطفال وآبائهم الدبابات والبلتوزر، بل وطائرات إف 16، كأن حياة، وأمن وكرامة الفلسطينيين لا قيمة لها.
أما المثال الثالث فهي أكثرها دلالة على ما تملك بعض أفراد الشعب الأمريكي من ازدهار وغرور بما لدى أمريكا من قوى تفعل المستحيلات سواء كانت بالنسبة للشمس أو الكون أو الأرض أو الشعوب قاطبة.
والمثال في شكل نشيد يتحدث عن قدرة أمريكا التي لا يقف أمامها حد وهيمنتها على العالم أجمع، وهو يستخدم الأمريكية الدارجة ومن ثم فسنعرضه بأصله الإنجليزي / الأمريكي لأن الترجمة قد تذهب بمعانيه:
The New York Times
May 20/2001
Drill, Grill and Chill
By MAURE N DOWD
WASHINGTON-We want big. We want fast. We want far. We want now. We want 345 horsepower in a V-8 engine and 15 miles per gallon on the highway.
We drive behemoths. We drive them alone. This country was not built on H.O.V. lanes.
We don’t have limits. We have liberties.
If we don’t wear our seat belts, it doesn’t matter, because we have air bags. If the air bags don’t deploy, it doesn’t matter, because our cars are so beefy, we’ll never get bruised. If we need to widen the streets for our all- wheel drives, we will. If we need to reinforce all the bridges in the country, so that they don’t buckle and collapse under our 5,800-pound S.U.V.’s, our engineers will do that.
We’ll bake the earth. We’ll brown & serve it, sauté it, simmer it, sear it, fondue it. George-Foreman-grill it. (We invented the Foreman grill.) We might one day bring the earth to a boil and pull it like taffy. (We invented taffy).
If rising seas obliterate the coasts, our marine geologists will sculpt new
ones and Hollywood will get bright new ideas for disaster movies. If we get charred by the sun, our dermatologists will replace our skin.
If the globe gets warmer, we’ll turn up the air-conditioning. (We invented air-conditioning.) We’ll drive faster in our gigantic, air-conditioned cars to (lie new beaches that our marine geologists create.
We will let our power plants spew any chemicals we deem necessary to fire up our Interplays, our Krups, our Black & Deckers and our Fujitsu Plasma visions.
We will drill for oil whenever and wherever we please. If tourists don’t like rigs off the coast of Florida, they can go fly fishing in Wyoming. We won’t be deterred by a few Arctic terns. We don’t care about caribou. We don’t care for cardigans. Give us our 69 degrees, winter and summer. Let there be light-no timers, no freaky- shaped long-life bulbs. (We invented the light bulb).
We want our refrigerators cold and our freezers colder. Bring on the freon. Banish those irritating toilets that restrict flow. When we flush, we flush all the way.
We will perfect the dream of nuclear power. We will put our toxic waste wherever we want, whenever we waste it. We have whole states with nothing better to do than serve as ancestral burial grounds for-our effluvium. It can fester in those wide open spaces for thousands of years.
We will have the biggest, baddest missiles, and we will point them in any direction we like, across the galaxies, through eternity, forever and ever.
We will thrust as many satellites as we want into outer space, and we will surround them with a firewall of weapons for their protection.
We will guarantee broadband and fast connections to the Internet. We will not permit anybody, anywhere, at any time to threaten the delivery of all the necessities to computers, Palm Pilots and Black Berrys: stock quotes, sports scores, real estate listings, epicurean. corn recipes, porn. (O.K., so we didn’t invent porn).
By arming space, and protecting satellites, we ensure life, liberty and the pursuit of happiness-our 500 TV channels drawn from the ether.
We will secure the inalienable right of every citizen driving by himself in his big car to be guided by a global positioning system. Nobody should have to call in advance for directions to a party when the satellite can show the way.
We will modify food in any way we want and send it to any country we see fit at prices that we and we alone determine in the cargo ships we choose at the time we set.
Our international banking arm-the World Bank and the I.M.F.-will support whatever dictatorships suit us best.
We will fly up any coast of any nation on earth with any plane filled with any surveillance equipment and top guns that we possess.
We will build super duper jumbo jets so Brooding again that runways will be crushed under their weight at the most congested airports in the history of aviation. (We invented aviation).
We will buy, carry, conceal and shoot firms whenever and wherever we want, as is our constitutionally guaranteed right. (We invented the Constitution.) We will kill any criminal we want, by lethal injection or electrocution. (We invented electricity.)
We are America.
Copyright 2001 The Now York Times Company | Privacy Information

لقد عاب القرآن على أقوام: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين( {128 – 130 الشعراء}.
إن هذا كله لا يكتب البقاء لا للأفراد ولا للأمم، بل إنه في الحقيقة يدفعها للسقوط في الهاوية، فيقدر ما تنفخ في البالونة بقدر ما تصل بها إلى الانفجار.
* * *
أريد أن أقول إن ما تعرضت له الحضارة الأوربية من شطط، وما يجعلها تعجز عن أن تتحكم في أهوائها لا تؤمن بالله، ولا تؤمن بحساب وعقاب في الآخرة، وأنه عندما ينعدم هذا فلا تقوى كل ما غرس في النفس الإنسانية من قيم أو حذر وما يقدمه المجتمع من ضوابط أن يقاوم طغيان الأهواء، والشهوات والغرائز، وقد كان الرومانيون يعرفون آثر زهو الانتصار والغرور على القادة الفاتحين في موكب النصر، فكانوا يوقفون وراء القائد المنتصر من يقول لـه: “تذكر.. أنك لست إلهًا، ولكن الحضارة الأوربية – على الطريقة الأمريكية – تريد أن تجعل من كل مواطن إلهًا”