Search
Close this search box.

12 ــ ” الثوابت”.. ما هي أولا ؟؟

ــ 12 ــ
” الثوابت”.. ما هي أولا ؟؟
ـــــــــــــــــ
من الطبيعي أن يكون لموضوع الثوابت أولوية وصدارة لأن المفهوم من التعبير أنه يعني القضايا المسلم بها إما بحكم النص القرآني الصريح الذي لا يقبل تأويلا أو التجربة والخبرة التي ثبتت على مر الأجيال وسلم بها الناس ولم تعد تثير جدلا أو تساؤلا.. الخ، وإن هذه الثوابت هي أسس وأصول العقيدة.
من أجل هذا فإن معظم المفكرين الإسلاميين يميلون لاستثناء الثوابت من إطار حرية الفكر فما دامت ثوابت، فالمفروض أن نعمل لتدعيمها وترسيخها لا أن نجعلها عرضة للمساءلة والمناقشة.
وقد كان ـ وما يزال ـ لنا رأي وهو أن الثوابت هي أجدر الموضوعات بالمناقشة لأنها إذا لم تناقش فإنها تصدئ أو تتوثن، وأن مناقشتها لا توهنها، وإنما تعطيها حياة جديدة وتكفل لها معايشة العصر، كما تحول دون أن تتطرق إليها الخرافة بحكم التوثين والتقديس.
مع هذا، فإن من الخير دائما أن نحدد أمرين:
أولهما: ما هي هذه الثوابت على وجه التعيين ؟
ثانيًـــا: ما هو الموقف من هذه الثوابت ؟
وهذا هو ما نعرض له في هذا المقال..
ما هي الثوابت:
أولا: ذات الله تعالى وطبيعته فهذه ما لا يمكن للعقل البشري أن يصل إليها، وأي محاولة لذلك تزج بالإنسان إلى غير طائل بل تسلمه إلى الضلال، ونحن نرفض مجرد التفكير فيها، ونأخذها كما عرضها القرآن ولا نلحق بها ما يضيفونه إليها من أحاديث أو من تأويلات خاصة لآيات الصفات التي مزقت المسلمين، وكان لهم عن هذا مندوحة فالقرآن الكريم تحدث عن اليد فقال: “إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ” (سبأ: 46)، وقال “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ” (سبأ:31)، فهل يمكن القول إن للعذاب يدا، أو للقرآن يدا لا تشبه أيدي الناس كما يقول الوهابيون، وهذا أكبر دليل على خطأ الاجتهاد فيما يتعلق بالله تعالى فإن هذا الاجتهاد كاد أن يصلهم بالمجسمة.
ومن الناحية المقابلة، فنحن نستبعد الأخذ بأسلوب علم الكلام للاستدلال على وجود الله أو إثبات صفاته، فهو أسلوب غريب على روح الإسلام لأنه يعود إلى روح فلسفات لا تؤمن بالله أصلاً، ولا تؤمن بالإسلام ولذلك تصدر أحكامها على الله تعالى من منطلق فهمها الإنساني، وقد قلنا إن الفهم الإنساني يعجز عن الولوج إلى هذه المنطقة، وقد تطرقت إلى علماء الكلام هذه النظرة دون أن يشعروا.
ولا نجد في قضية القضاء والقدر وجبر الإنسان أو اختياره أي مشكلة لأنها تتعلق بعلم الله الذي لا نستطيع أن نحده ونخطئ لو حكمنا عليه بعلمنا ولأن المشيئة الإلهية، وإن كانت مطلقة شاملة ودون قيد أو شرط، ومما لا يمكن أن نحيط بأقطارها، فإنه ـ تعالى ـ بالنسبة للأرض والإنسان ولمجتمعه بلور مشيئته في سنن ومبادئ “كتبها على نفسه” بتعبير القرآن، وجعلها هي المناط في تسيير هذا الكون وليس هناك ما هو أصرح من الآية “وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا” (المنافقون: 11)، فقد ربط ما بين مشيئته “والأجل” وكذلك “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، فربط مشيئته بتصرف القوم أولا، وندد القرآن بالذين قالوا: “وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ” (الزخرف: 20).
وفي عديد من الآيات أوضح القرآن أن الله تعالى خلق في الإنسان عقلا يميز بين الحسن والقبيح وأرسل إليه الأنبياء، وأنزل معهم الكتب المقدسة ليعرفه على الخير والشر، وليستكمل له ما يعجز العقل عنه ومنحه إرادة حرة يختار بها ما يشاء وهو يثيبه إذا أحسن الاختيار، ويعاقبه إذا أساء، أما كيفية علاقة هذا بعلم الله تعالى السابقة وكيف تتلاءم الحرية مع علمه فهذا ما لا نشغل أنفسنا به، لأننا لا نحيط به.
وكل الانحرافات والتعسفات في العقيدة إنما جاءت من محاولة الحكم على الله تعالى بمقتضى الفهم الإنساني، مع أنه تعالى قال: “فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ” (النحل: 74)، وأي محاولة للاختراق لابد وأن تنتهي بالضلال والانحراف.
ثانيا: يلحق بذات الله تعالى عالم الغيب بدءا من الموت حتى الدخول في جنة أو نار، فنحن نؤمن بها كما جاءت في القرآن، ولا نضيف عليها ما جاء في معظم الأحاديث لأن عالم الغيب هو ما أستأثر الله به ومن ثم فلا يكون موضوعا لأحاديث تعلن على الناس، ونحن لا نجهد أنفسنا في تفاصيل ما جاء في القرآن عنه لأن ما أراده القرآن هو الانطباع العام، ولكننا لا نستبعد أن يكون معظم ما جاء عنه هو باب المجاز الذي يؤثره القرآن عند الحديث عن هذه المجالات ليتحقق الصدق الفني الذي يلجأ إليه لتكثيف المعنى كما نقول هو بحر في السخاء، وأسد في الشجاعة، وليس هو بحرًا، ولا أسدًا، ولكن رجــلاً، ولكننا ندع لكل واحـد أن يفهم ما يطمئن إليه فؤاده دون محاجاة، أو محاولة لحمل الآخرين على الأخذ به.
ثالثًا: القرآن الكريم: نؤمن بأن القرآن الكريم هو توجيه الله تعالى الذي أوحى به إلى الرسول، ونحن نتقبله ونرى أنه الحق الذي لا يتطرق إليه باطل، ونستبعد كل ما حشيت به التفاسير وما أورده بعض الأسلاف من أقوال تحذف أو تضيف، كما نستبعد النسخ في القرآن وكذلك أسباب النزول ولا نرى لها حاجة إلا التطفل على النص وإيجاد إيحاءات مضللة رغم القول إن العبرة بعموم النص لا بخصوص السبب.
ولا يعني تقديسنا للقرآن واعتباره من الثوابت ألا نعمل الفكر فيه، لأن هذا هو ما يوجبه القرآن نفسه علينا، “وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً”، والنظر في القرآن ككل هو ما يقربنا إلى روح القرآن ومضامينه العامة التي نستلهمها في وضع القواعد واستنباط الأحكام مما قد يجعلنا نجمد نصًا، لأن العلة التي وضع لأجلها انتهت، وهو ما تنبه لـه عمر بن الخطاب في بعض اجتهاداته.
وبالطبع فنحن لا نعتبر تفسيرات المفسرين من الثوابت، بل نرى أنها شغلت الفكر بتفاصيل وحكايات ملفقة بعيدة عن اللب والجوهر في القرآن، وبهذا أساءت إليه وجنت عليه.
ونحن لا نعتبر أن من الثوابت أحكام المذاهب وأقوال الفقهاء، بل حتى أقوال وأعمال الصحابة بمن فيهم الخلفاء الراشدون، إننا قد نستأنس بها ولكننا لا نراها من الثوابت الملزمة.
رابعا: السُـنة تعد السنة أيضا من الثوابت بعد ضبطها بضوابط القرآن وإن كان هذا سيجعلنا نتوقف أمام العديد من الأحاديث التي تضمنتها المسانيد وكتب الصحاح “بما في ذلك صحيحا البخاري ومسلم”، وفي مقابل هذا فنحن نرفض الأخذ بما أعتبره الفقهاء ليس تشريعا من السنة مثل المبادئ والممارسات التي أرساها الرسول كقائد جيش ورئيس دولة، إذ أننا نعتبرها أولى بالتطبيق مما جاء في جزئيات العبادة، كما أن شخصية الرسول تستأثر بأهمية كبرى وتظل خالدة دائمًا، إن القرآن عندما قال: ” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ” (الأحزاب: 21)، فإنه كان يرسى مبدأ من أهم المبادئ وأكثرها تأثيرا في الحياة والمجتمع ــ هو الأسوة والقدوة ــ وهو مبدأ لا تشير إليه الكتابات الأوروبية التي تعني بالنظم والسياسات، في حين أنه يمكن أن يغني عما يضعونه من ضمانات وما يستهدفونه من غايـات.
خامسًا: ومن الثوابت الشعائر العبادية التي فرضها الله وهي الصلوات الخمس كل يوم، وصيام رمضان شهرًا في السنة، والزكاة كل عام، والحج لمن استطاع إليه سبيلا مرة واحدة.
وهذه هي العبادات التي يجب أن يقوم بها المسلم قياما حسنا فيه النية وفيه الخشوع وحضور القلب، أما السنن والنوافل سواء كانت في الصلاة، أو الصيام أو الحج والعمرة، فمن الخير أن يدخر المسلم وقته وجهده لما أصبح أكثر أهمية من عمل في القضية العامة.
ولرب قائل يقول: هل تحجر على مشاعر الذين يجدون أنفسهم تهفو للصلاة، ويحسون الطمأنينة والراحة وهم يتهجدون بالليل ؟ فنقول نحن لا نحجر على من يستشعر هذا أن يقوم بما يشاء من تهجد وصلاة ولكننا نتحدث عن عامة الناس، ومن ناحية المبدأ أما بالنسبة للآحاد، فلكل أن يتبع ما يتفق مع نفسه ولكننا نفضل ما ذهبنا إليه للعامة تخفيفا عنهم وحرصا على الأولويات.
وعندما أوجب الإسلام أداء هذه الشعائر والعبادات، فإنه في الوقت نفسه أوجد تيسيرات ورخصًا مثل الجمع بين صلاتين في الحضر عند الضرورة ومثل المسح على الجوربين، والتيمم عند انعدام الماء، والإفطار للسفر وإفطار المسن الذي لا يطيق الصيام وبعض التيسيرات مما جاء بالقرآن الكريم والآخر مما جاءت به السنة، ونحن نأخذ بها لأن الرسول رحمة للعالمين “عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ” (التوبة: 128)، “لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ” (الحجرات: 7)، ولأن التيسير أصل من أصول الإسلام فليس في الأخذ بهذه الرخص شبهة.
بعد هذا كله إذا فات فرد أداء بعض هذه الواجبات فهناك صور عديدة لإصلاح هذا مثل الاستغفار وعمل الصالحات والإنفاق والتوبة ــ وهي ممارسات تصلح لتعويض ما قد يطرأ لأحد فيؤدي إلى عدم قيامه بأحد الفروض دون تمييز، بمعني أن ذلك ينطبق على الصلاة أيضًا، فإن القداسة الخاصة للصلاة ليست أعلى من التوبة *.