Search
Close this search box.

4 ــ كيف تعامل الإسلام مع الضعف البشري

ــ 4 ــ
كيف تعامل الإسلام مع الضعف البشري
ـــــــــــــــــ
ــ 1 ــ
يعترف الإسلام بالضعف البشري، وأن هذا الضعف جزء من الطبيعة البشرية التي جبل الله عليها النفس البشرية “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا”، “إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً”، “وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً”.
ذلك أن الله تعالى لم يرد للإنسان أن يكون كالملائكة التي خلقت من نور ولا تعرف إلا التهليل والتسبيح، فقد خلقه من صلصال من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، فحمل كل ما في الأرض من كثافة، ثم نفخ فيه من روحه فسما به إلى سماوات الضمير ولإرادة ثم أرصد له الشياطين لغوايته وأرسل إليه الرسل لهدايته، فهذا الكائن المعقد الذي يولد قطعة لحم لا تري ولا تسمع.. ثم ينمو فيزحف على أربعة.. ثم يقف على قدمين ويشب وتتكامل له الأعضاء كافة حتى يكون شابًا قويًا أو فتاة جميلة، يدفعه الطموح والإرادة وتضغط عليه محدودية الموارد، هذا الكائن لابد أن يتعرض للمخاطر وليس أمامه إلا أن يدخل مدرسة التجربة والخطأ فيخطئ ويتعلم من خطئه.
لم يستبعد الإسلام الخطأ على الإنسان، بل رآه أمرًا طبيعيًا، وقد جوز الخطأ على الأنبياء أنفسهم وهم المثل العليا للبشـرية في غير ما كلفوا بتبليغه، فقال القرآن عن آدم: “فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً”، وعن سليمان: “وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً”، وقال عن يوسف: ” وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ”، وقال عن موسى: ” وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً”، وقال عن ذي النون: “وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ”، وقال عن محمد: “وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ”، “وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً”، ونحن لا نجهل ما تذكره كتب التفسير عن هذه الآيات، لكن ظاهر الكلمات والسـياق يأباها، وليس الأنبياء بعد بمعصومين لولا رحمة الله بهم وفضله عليهم، وليس ما هو أصرح من كلمة يوســــف “وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ”.
يتعامل الإسلام مع هذا الضعف طبقًا لاستراتيجية طويلة تدوم مادام الإنسان ولا تقف إلا عند “الغرغرة” أي الدقائق التي قبل الموت عندما تفارق الروح الجسد.
وهذه الاستراتيجية ذات طبيعة إيجابية ــ حيوية ــ عملية وقوام هذه الطبيعة ما يمكن أن نسميه ” المقاصة ” أي مقابلة السيئات بالحسنات ولم يكن مناص من أن تكون هذه هي طبيعة الاستراتيجية الإسلامية، لأنه بعد أن سلم الإسلام بالضعف البشري وأن الإنسان سيقع في خطأ، وسيرتكب ذنبًا لا محالة وبحكم طبيعته وخلال سنوات عمره الطويلة، فلم يكن من محل إلا ” المقاصة ” أي تقديم الحسنات والأعمال الطيبة والخيرة بقدر ما اضطره ضعفه البشري لارتكاب سيئات فتمحوا الحسنات السيئات.
والأساس في هذه المقاصة هو قول الله تعالى: “إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ”، وقول الرسول (واتبع السيئة الحسنة تمحها)، ويصور هذه المقاصة تصويرًا رمزيًا حديث المفلس الذي صور المفلس يأتي بصلاة وصيام وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطياهم فطرحت عليهم وهذا أكمل تصوير لمضمون المقاصة.
ويفرق الإسلام في هذه المقاصة بين نوعين من الخطأ نوع نسميه الضعف ونوع نسميه الشر، والضعف هو ما يعود إلى الضعف في الطبيعة البشرية وسمته الرئيسية أنه لا يضر أحدًا غير صاحبه، أما الشر فقد لا يكون بالدرجة الأولى نتيجة للضعف وإنما يحدث لقوة الإغراء وضراوة الإغواء، وهو عادة لا يقف عند حد، وإنما يميل للاستشراء، وهولا يقع على صاحبه وإنما ينسحب على الآخرين فالسرقة شر، والقتل شر وسوء المعاملة شر.
والقسم الأول (الضعف) يكون ذاتي الطبيعة، والقسم الثاني (الشر) له طبيعة اجتماعية بمعنى أنه يقع على آخــر، كما أن المقاصة لا تكون كافيــة في حالة الشر، إذ لابد من إصلاح ما أفسد كإعادة المسروق أو التعويض عن الخســائر… الخ.
والإسلام رفيق مع القسم الأول (الضعف) ولكنه جاف مع القسم الثاني لأنه يسئ إلى الآخرين، ولهذا يستخدم الرحمة مع الأول ويستخدم العدل مع الثاني.
ــ 2 ــ
في المقال السابق رأينا أن الإسلام وضع استراتيجية للتعامل مع الضعف البشري تقوم على المقاصة،ى أي مقابلة السيئات بالحسنات، وفرقنا بين الضعف والشر وأن الأول ينطبق على صاحبه بينما الثاني يؤثر على الغير.
وقلنا أن الإسلام رفيق مع الضعف، جاف مع الشر يستخدم الرحمة مع الأول ويطبق العدل على الثاني.
نريد الآن أن نوجه النظر إلى نقطة هامة ــ تلك ــ هي أن هذه الاستراتيجية الحيوية الإيجابية العملية تختلف تمام الاختلاف ــ إن لم تتعارض ــ مع الاستراتيجية التي وضعها الفقهاء للتعامل مع الضعف البشري والتي تقوم على ” سد الذريعة ” أي أنها تريد أن تحول بين الإنسان وبين الوقوع في الأخطاء والذنوب بإبعاده عن العوامل التي تؤدي إلى الخطأ والذنوب أو بوضعه في صوبة لا يمكن للآثام أن تدخلها، وفاتهم أن الضعف مغروس في النفس الإنسانية نفسها، وباب سد الذريعة باب متسع في الفقه الإسلامي، وبعضهم بناه على أن العبرة بالمآل وأنه يدخل في فقه المآل، بينما ركز آخرون على تحديد مدى المفسدة التي يجب سدها، ولما كان الاتجاه الفقهي بصفة عامة يأخذ بالأحوط ويتوقى عدم وجود ثغرات يسمح منها ظهور المفسدة، فإنهم توسعوا في استخدامها، وكان كل ما جاءوا به من مباحث طويلة قائمة على فقه يعالج التصرفات كما لو كانت أعمالاً ثابتة جامدة، يفصل فيها المنطق الصوري وأنهم تجاهلوا أصولاً في الشريعة لا يسمح بمثل هذا التزيد والتحوط، لأنه يخالف اعتبارات اعتمدتها الشريعة، وما قضت به الطبائع من أن التوسع في التحريم يؤدي إلى آثار عكسية، وأن طبيعة المعالجة تتناقص مع الطبيعة الحيوية الديناميكية التفاعلية للسلوك الإنساني وما ينتهي إليه.
والأساس الذي يقوم عليه مبدأ سد الذريعة هو أن كل وسيلة تؤدي إلى حرام يجب تحريمها ويذكرون في دعم مبدأ سد الذريعة الآية “وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ”، ولكن لما كانت دلالة الآية محدودة، فإن الاستخدام الأعظم جاء عن طريق حديث “المرأة عورة” فإذا كانت المرأة عورة، فإن سد الذريعة دون الفتنة بهذه العورة هو حجزها في البيوت داخل أربعة جدران، وإذا خرجت لضرورة يجب أن تخرج كما لو كانت شبحًا، وينسحب هذا على كل المناشط التي يمكن أن تقوم بها، كما يلجأون إلى حديث الحرام بين والحلال بين وبينهما متشابهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام… الخ.
وليس من اليسير أن نطرح استشهادًا أقوى كأن يأتي النص القرآني محدداً لما حرم الله كما جاء في الآية “أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ”، فيكون سد الذريعة افتياتاً عليها، وكذلك حديث الرسول عن أن الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وبينهما عفو فأقبلوا من الله عافيته، ومنها التوجيه النبوي للمؤمنين “إذا نهيتكم عن أمر فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم” فهذه كلها ترى في سد الذريعة إفتياتًا على الشريعة.
وقد أثبتت التجارب أن المحاولات التي قامت بها بعض النظم الدينية الحاكمة مسيحية أو إسلامية لاستئصال الشر والفساد من منبعه والحيلولة دون ظهوره باءت بالفشل، وأنها حتى عندما تكتسب نجاحًا ظاهريًا وموقوتًا تدفع ثمنًا باهظًا في وسائل وأساليب تتطلب القمع والتجسس وتؤدي إلى ظهور السوق السوداء، والتهريب، والتحايل وإفساد الضمائر والنفوس لأن هذا الأسلوب يجافي طبيعة المجتمع البشري، وما فيه من ضعف وشهوات وما أراده الله له من مجابهة بين الحق والباطل.. الخير والشر.. الإرادة والهوى.
وإنما سلك كثير من الدعاة الإسلاميين هذا المسلك لأنهم حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة ينظرون منها ويحكمون على الأشياء طبقًا لها، ولو انهم درسوا المجتمع الإنساني والنفس البشرية دراسة موضوعية شاملة لأدركوا أن الحرمان المحرق لا يقل سوءًا عن الشهوة الجامحة، وأنه يذل النفوس ويوهنها ويوجد فيها ثغرات عديدة يمكن أن تؤتي منها.
وبالطبع فإن من يسلك هذا المسلك لا يمكن أن يفهم العمق الذي تضمنه فهم الإسلام للذنب وأن الوقوع في الذنب لا يخلو من آثار تصب في خانة المصلحة لا المفسدة وهو سر لا يمكن أن يدركه الفقهاء الجامدون والأعراب الجفاة، ولكن الإسلام الذي جاء من عند الله الذي يعلم بما في الإنسان وما توسوس به نفسه وأنه أقرب إليه من حبل الوريد يدرك أن الوقوع في الذنب قد يكون هو نفسه نوعًا من سد الذريعة بمعنى تكرار الذنب، كما أنه يحول من تسلل عاطفة الزهو بعدم الخطأ على غيره والزهو في حد ذاته من كبائر الذنوب، وأنه من الخير أن يذنب أحد مرة ثم يتوب ويندم على هذا الخطأ، أفضل من أن لا يخطئ أبدًا، وتنازعه نفسه إلى ارتكاب الذنب مرة أخرى، وان التوبة بحكم أنها ابتهال صاحبها إلى الله تعالى ورغبته المخلصة في العفـــو والرضا أعمق أثرًا في الصلاح.
ولهذا جاء الحديث (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، ومن يتعمق في فهم هذا الحديث يدرك الأبعاد بذنب ويستغفر ويتوب وأنها أبعد مما يمكن أن يصل إليه من لم يذنب، فالتوبة المخلصة تدفع للعمل الصالح، والابتعاد عن الشر والإثم، ولابد بالتالي أن يمارس، فهذا الحديث يؤدي إلى التطبيق العملي لمبدأ المقاصة رغم أن ظاهره قد لا يوحي بذلك.
ــ 3 ــ
حتى الآن لم نتحدث عن تفاعيل ومفردات استراتيجية المقاصة للتعامل مع الضعف البشري. وكقاعدة عامة فإن الإسلام يضع خطًا وسطًا يمثل سلوك المسلم النمطي، ويفترض أن يؤدي ما يوجبه، وأن يتجنب ما ينهي عنه، فعليه أن يصلي الصلوات المفروضة الخمس وأن يؤدي الزكاة وأن يصوم رمضان وأن يحج مرة واحدة إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وعليه أن يتجنب ما أمر الله باجتنابه صراحة كالشرك أو عدم الإيمان بالرسل أو الكتب السماوية أو اليوم الآخر، وأن يتجنب المحرمات في المأكل والمشرب كشرب الخمر وأكل الخنزير والسلوك فلا يقرب السرقة أو الزنا أو الشهادة الزور وأن يكف يده عن كل صور الأذى للآخرين وأن يعامل الناس بخلق حسن.
المسلم الذي يلتزم بذلك دون أي زيادة فلا يكون عليه مآخذ ويكون كالإعرابي الذي عندما عرض الرسول عليه أركان الإسلام تعهد بأدائها دون أن يزيد عليها فقال الرسول ” أفلح إن صدق “.
فوق هذا الخط يوجد خط الفضل الذي يبيح لمن يشاء أن يزيد ما يشاء، سواء كان ذلك في القربات أو في أعمال الخير على تفصيل في الأولويات، فما ينفع الناس أفضل عما يقتصر نفعه على نفسه وحده، وينطبق عليهم جميعًا ” استبقوا الخيرات “.
وتحت خط القصد يمكن أن يحدث التقصير، وبالطبع فما من مسلم سيجحد أصول العقيدة من إيمان بالله والرسول واليوم الآخر حتى وإن كان المسلم به أن الأغلبية قد لا تعلم تمامًا أعماق وأبعاد هذا الإيمان.
ويمكن أن يحدث تقصير في العبادات (من صلاة أو صيام أو حج)، وطبقًا لمبدأ المقاصة، فإن عليه أن يأتي من الحسنات ما يتكافأ مع حجم التقصير، فإذا كان استسلام لشر فعليه التوبة وإصلاح ما أحدثه هذا الشر.
وقد كاد الفقهاء أن يوثنوا الصلاة ويعتبروا من يقصر فيها كافرًا بقدر تقصيره، والصلاة على أهميتها قربى كبقية القربات، وقد يقدم القرآن عليها الأمر بالمعروف أو الجهاد… الخ، تبعًا لمناسبات معينة، كما وضع تيسيرات عديدة تصل إلى حد الجمع ما بين الظهر والعصر، وما بين المغرب والعشاء إذا تعسر عليه إقامة كل صلاة في وقتها، فقد رخص بذلك الرسول ” لكي لا أشق على أمتي”، فإذا حدث تقصير فإن الحسنات تكفر عنه شان الصلاة في هذا كشأن كل العبادات.
وإذا كان الذنب مقارفة الزنا أو شرب الخمر، فإن هذا أيضًا تسويه المقاصة ومن المسلم به أنه لا يوجد إثم أعظم من رحمة الله “قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً”، وإن استثنت إحدى الآيات به والمفروض أن لا يقع من مسلم.
وتجدر الإشارة إلى أن الناس في معظم الحالات تفهم الله تعالى بالصورة التي في أذهانها عن الملوك والأباطرة، وتجري عملية “إسقاط” نفسية إنسانية على الله، ويجب أن نستبعد هذا تمامًا وأن تكون الصورة التي في ذهننا عن الله هي التي عرضها القرآن بمقايسة تختلف عن مقاييسنا وخزائنه لا تنفد ويميل بعض الناس بحكم رواسب قديمة من تاريخ الأديان أو شذوذ في النفس أن يعلي جانب القسوة في حين أن الله هو الرحمة، وعندما أراد الرسول تقريب رحمة الله إلينا قال أنها تعادل مائة مرة رحمة الأم بوليدها، لهذا فإن الله تعالى يكافئ على الحسنة بعشر أمثالها وعلى السيئة بسيئة واحدة، وقد يرتفع عدد العشرة فيصل إلى سبعمائة مرة.
كما يجب أن تذكر أن الله تعالى تجاوز عن كثير من السيئات كرمًا منه ولطفًا كما قال “أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ” (الأحقاف 16)، كما أنه قال: “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ”، فوضح أن اللمم لا يدخل في ما يفترض أن يجتنبه المؤمنون، واللمم قد يكون صغار الذنوب وكما قد يكون مقاربة الذنوب الكبيرة دون أن يتوغل فهذا أيضًا يدخل في باب غفران الله ورحمته.
لا يهم الإسلام بوجه خاص أن يقترف المسلم ذنبًا، ولكن يهمه أن تظل حاسة الإيمان مرهفة في نفسه، وأن هذه الحاسة مع اقترافه الخطأ تجعله في حالة استغفار وندم، ومثل هذه الحالة أثمن عند الإسلام من حالة الذي لا يخطئ ولا يحس بحاسة الاستغفار كما أشرنا من قبل، وقد جعل القرآن الكريم الاستغفار حصانة من عذاب الله، كوجود الرسول بين جنبي المسلمين فقال: ” وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ”، وكما قلنا فإن هذه الأبعاد السيكولوجية هي مما لا يدركه الفقهاء الجفاة الذين لا يعنون إلا بظاهر النفس الإنسانية أما أعماقها فهذا مما لا يخطر لهم ببال.
وهناك أمران أخيران يجب أن نعلمهما:
الأول: أن باب المقاصة مفتوح حتى الغرغرة، أي حتى تفارق الروح صاحبها وقبل هذا يمكن أن يتوب فتمحى عنه كل سيئاته، بل لو اتسع له الأجل لعمل صالحًا، فإن سوءاته تلك مهما تعاظمت تتحول إلى حسنات “وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِـــلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً” (الفرقان: 68ــ70)، وعلى هذا فلا يمكن إصدار حكم قاطع على من ارتكب إثمًا لأن من المحتمل أن يتوب فيمحى هذا المنكر، وقد تضيق معاييرنا عن تحمل هذا، فنقضي ونحكم فورًا بمجرد ارتكاب الإثم ، وهو أمر مفهوم لأن مقاييسنا لا يمكن أن تتسع وتنفسح وتصبح كمقاييس الله.
ثانياً: إن الحساب سيكون على مجموع الحسنات ومجموع السيئات وغلبة أحدهما على الآخر، وليس على كل ذنب على حدة لأن ذلك يجافي المبدأ السابق والمحاسبة لا تحدث إلا يوم القيامة، وعلى مجموع عمل الفرد، فإن زادت الحسنات فإلى الجنة وإن زادت السيئات فالنار مصيره، ولكن الحساب لا يكون كحسابنا ولكن بحساب أن الحسنة بعشرة أمثالها أو حتى بسبعمائة ضعف والسيئة لا تحسب إلا واحدة، يضاف إلى هذا ما أشرنا إليه من تجاوز الله تعالى لكثير من الذنوب ولعـدم احتسـاب اللمم.
أعتقد أن ميزانية تحسب الحسنة بعشر أضعافها وفي حالات بسبعمائة ضعف لا يمكن أن توقع ظلمًا على أحد، بل يغلب أن يكون مصير الأغلبية الساحقة الجنـة، وأن الإسلام أبعــد ما يكون عن القسوة، كما يصور البعض أنه الرحمة التي فوق التصور البشري.