Search
Close this search box.

6- سرقة السلطة تحت جنح الظلام

ــ 6 ــ
ما الذي حدث ليلة 23 يوليو سنة 1952 ؟؟
سرقة السلطة تحت جنح الظلام
ـــــــــــــــــ
احتار الناس في تكييف وتوصيف ما حدث في ليلة 23 يوليو، فقال بعضهم إنها ثورة، ولكن أصحاب هذه الليلة استنكروا ذلك بشدة وأوعزوا إلى الصحف بعدم استعمالها، وقال آخرون إنها انقلاب عسكري، ولكن هذا ضايق ضباط يوليو وغضبوا على من استخدمه حتى اهتدوا إلى تعبير “حركة” وجاءهم ابن الحلال بصفة “المباركة” فارتاحوا وأصبحت في الأيام الأولى لها “الحركة المباركة”.
واليوم يقولون إن الأمة على بكرة أبيها تحتفل بمرور خمسين عاماً على ثورة يوليو المجيدة، وهذا كذب، وزيف، فلا يزال بين الناس من يحمل آثار سياط يوليو وبقايا تعذيبها، ولازلنا جميعاً نصطلي بآثار الهزيمة المخزية التي تسبب فيها نظام يوليو وأخرت أمة العرب مائة سنة إلى الوراء.
فإذا كان الحكام، وأجهزة الإعلام، والمثقفون والمغفلون يؤكدون أنها ثورة مجيدة، فليس هذا هو رأى الشعب.
على أنه لو كان رأى الشعب بقضه وقضيضه فهذا لن يجعلها ثورة !
لأن أبسط تعريف للثورة هو أنها حركة تستهدف تغييراً شاملاً يقوم على أساس نظرية محكمة وتطبقه الجماهير.
وما حدث في 23 يوليو لم يكن فيه مقوم واحـد من هذه المقومات، فلم يكن هناك نظرية، ولم تشترك جماهير، وبالتالي فإن التغير لم يكن شاملاً.
فإذا ظل ستون مليوناً يؤكدون من الصباح للمساء، أو حتى يتوفاهم الله إنها ثورة، فإن هذا لا يغير من الحقيقة شيء، وإنما هو يؤكد أن البشرية ظلت سبعة آلاف سنة تعبد الأوثان وتتقرب إليها بالضحايا لتنال رضاها، وأنها تضيف على السبعة آلاف سنة خمسين سنة أخرى وعلى العدد ستين مليونًا.
أن هذا لا يثير دهشة المؤرخ ولا يعد أمراً غريباً بمعايير تطور البشرية..
* * *
إذا لم يكن ما حدث في 23 يوليو ثورة أو انقلاب.. فماذا يكون..
أقرءوا هذه الرؤية الجديدة…
* * *
يحدث للمجتمعات في ساعات محنتها أن يظهر شخص قوى يستغل العمال ويستعبد الفلاحين ويخدع الحكومة، وبهذه الطرق يحصل على ثروة ضخمة ويكسب شهرة مدوية تغطى على أعماله القذرة.
ولما كان يعرف حقيقة أعماله، فإنه وضع ثروته في قلعة حصينة بأقفال حديدية، ومزودة بحرس شديد يحرسها ويحميها ليل نهار.
والناس يتحسرون كلما يمرون بها لأنهم يرون ثرواتهم المسروقة، ولا يملكون شيئاً، فالحرس شديد والرجل على موبقاته يظفر بالشرعية القانونية، فلا يمكن العمل بإجراءات مشروعة مقاضاته، ولا يمكن بهجوم مسلح التغلب عليه.
في مثل هذه الحالات يظهر شخص ذكى، جرئ، طموح يعلم أن ما لا يمكن نيله بالطرق المشروعة، يمكن نيله بالدهاء والخداع وبالطرق غير المشروعة وأن ما لا يمكن الجهر به من العمل يمكن أن يؤدى سرًا وتحت جنح الظلام.
ويحكم هذا الرجل خطته، ويدهم القلعة تحت جنح الظلام ويخدع الحراس ويضع يده على الثروة.
عندما يحدث هذا فإن الجمهور يصفق لهذا الرجل الذي سرق السارق، وخدع الخادع، وتوصل إلى ما عجزوا عنه.
ولكنهم يدخرون تصفيقتهم المدوية عندما يبدأ هذا الرجل في توزيع الثروة على الذين أخذت منهم ظلماً أنهم يحيونه ويطلقون عليه “اللص الشريف”.
حدث هذا في كثير من المجتمعات.
حدث في إنجلترا بصورة جعلت الأساطير تحيط بأعمال روبين هود ” اللص الشريف” الذي يأخذ من الأغنياء ليعطى الفقراء.
وظهرت بين صفحات ألف ليلة وليلة في تلك الأيام، المجهولة التي يلف تاريخها الظلام ويصبح “العياريون” هم القوه الوحيدة التي تقف للوزراء والتجار وتسطوا على ثرواتهم.
تحدثنا ألف ليلة وليلة عن العجوز الداهية التي قررت أن تستحوذ على ثروة أحد “مصاصي الدماء” الذين أودعوا أموالهم في قلعة يحيطها بالحراس الأشداء.
فقد ملأت ثلاث “قرب” كبيرة من أجود الخمر وحملتها على حمارها وسارت تتوكأ على عصا، فلما أصبحت أمام القلعة فتحت بحركة خفيفة أفواه القرب فبدأت الخمر تنسكب على الأرض.
وصاحت العجوز بالحرس “الحقوني” الخمر انسكبت على الأرض، وأسرع الحرس إليها وفى أيديهم ما قدروا عليه من آنية بحيث أفرغوا القرب الثلاث فيها وصرفوا العجوز بغلظة.
وأبو بغنيمتهم وعكفوا على الشراب حتى تملكهم الذهول وغطوا في نوم عميق، وعندئذ عادت العجوز الذكية، ومعها أعوانها وفتحت الأبواب المغلقة واستحوذت على الثروة.
* * *
شيء كهذا كان المسرح المصري مهيئا له قبيل 23 يوليو فهناك ملك فاقد الموهبة وصفات القيادة استحوذ عليه القمار والنساء، والارتشاء وأحاطت به بطانة ساقطة تزيده خبالاً ووزراء متشاكسون هدفهم الوحيد السلطة، وأحزابهم بلا جمهور حتى حزب الوفد التي تآكلت شعبيته بعد مرور ثلاثين عاماً وأصبح هدفه الوحيد الوصول إلى الحكم بعد أن حرمته مؤامرات أحزاب الأقلية ذلك.
جيش أقسم يمين الولاء للملك القائد الأعلى والذي يمثل الشرعية التي هي قوام العسكرية، ويعد أي مساس به مساس بأولى قواعد العسكرية.
شعب أعزل مسكين لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً.
أذكر شخصيا هذه الأيام جيداً، كنا نقول إن الجيش هو القوة الوحيدة التي يمكن أن تتحرك، ولكن الجيش في يد “حيدر” وحيدر هو رجل الملك.
* * *
في هذا المناخ ظهر رجل ذكى شديد الذكاء يتملكه طموح لا حد له ولا تنقصه الجرأة والإقدام، ولكن أهم من كل هذا أنه كان متآمراً بالطبيعة والفطرة، كأنما لم يخلق من لحم ودم ولكن من مادة التآمر نفسها وكان فيه كل ما يتطلبه التآمر من ذكاء ودهاء وحذر وكتمان.
استطاع هذا الرجل أن يستقطب مجموعة محدودة من الضباط وتعرف على كل الهيئات الإخــوان، الشيوعيين، الوفديين، مصر الفتاة، ولم يكن الرجل ولا معظم مجموعته محروماً من المشاعر الوطنية فقد كان “الإصلاح” هو الهدف الذي تكونت في ظله وبفضله المجموعة.
وكان هناك مجموعات عسكرية عديدة بعضها أفضل من مجموعته، ولكنه هو وحده الذي توفرت فيه صفات القيادة المطلوبة لمثل هذا العمل.
وتوصل إلى اكتساب تأييد قرابة خمسين أو ستين ضابطا معظمهم من الرتب الصغيرة، وأعلاهم من كان حائزاً لرتبة البكباشي، أو القائمقام.
أحكم الرجل خطته، وفى ظلام 23 يوليو، والملك والوزارة وكبار القادة في المصيف، هاجم القيادة واستحوذ على السلطة.
ويجب أن نقول إن النشأة الوضيعة واللاشرعية لحركة 23 يوليو لم يكن منها بد، بل لم يكن هناك تصور آخر، فإن الفساد كان قد وصل بباشوات مصر إلى النهاية وقد يصوره موقفهم من طلعت حرب في أزمة بنك مصر في أعقاب الحرب العالمية وكيف أبعدوا الرجل عن البنك الذي أسسه سنة 920 ووهبه عمره، كما كان الملك قد فسد فساداً لا رجاء في إصلاحه أما الهيئات التي كان يرجى منها العمل في “تخصيب” المجتمع والقضاء على تخلفه مثل الحركة النقابية، فقد كانت الأحزاب قد أفسدتها ومن سوء الحظ أن الكتلة الإسلامية، والكتلة اليسارية معاً فقدا وضوح الرؤية، فلم يكن هناك أمل في ثورة شعبية، أما الإصلاح الذي كان المناخ الليبرالي يسمح به فقد كان أبطأ من السياق، وضاق به المجتمع فلم يكن مناص من حركة سرية صغيرة تعمل “لسرقة” السلطة تحت جنح الظلام، بل لعل تعبير “نشل” السلطة أدق من سرقة السلطة، لأن المطلوب هو عملية نشل تتم بسرعة ودهاء دون أن تتنبه الضحية.
وهذا هو بالضبط ما حدث في 23 يوليو. ولو كانت المجموعة الضئيلة المحدودة التي تحركت بالفعل أكبر مما هي لكشف عنها ولو تحرك الجيش بأسره ــكما حدث في حركة عرابي ــ لتنبهت لها القوى الاستعمارية وأجهضتها، فأسلوب النشل كان التصرف الوحيد، وكان ما فعله عبد الناصر هو التصرف الوحيد الممكن، وقد تلاقى ذكاؤه التآمري مع تاريخ مصر في إحدى منحنياته.
وكان احتمال كشف الحركة ــ رغم كل ذلك ــ واردًا، بل كشفت بالفعل في الساعات الأخيرة لها، ولكنها رزقت عوامل استثنائية كفلت لها النجاح في النهاية وبعض هذه العوامل يعود إلى ذكاء ودهاء مدبرها، ولكن البعض الآخر مما ليس له فيه نصيب.
فقد كانت هناك مجموعات عسكرية سبقت تنظيم عبد الناصر ولكن عبد الناصر كان قد أحكم صلته بالإخوان وتعاون عملياً معهم وكسب ثقة رئيس التنظيم العسكري الإخواني الصاغ محمود لبيب، وخدعه أيضا، وكان ينافسه في زعامة التنظيم الضابط الإخواني عبد المنعم عبد الرؤوف، وعندما مرض محمود لبيب مرض الموت، لم يكن عبد المنعم عبد الرؤوف في القاهرة ولازمه حتى الوفاة جمال عبد الناصر وأخذ منه كشوف أسماء الضباط الإخوان، بل والاشتراكات أيضًا، وكانت وصية محمود لبيب رحمه الله أن لا يختلف عبد المنعم رؤوف مع جمال عبد الناصر، فهما فرسا رهان، ولكن الحقيقة أن عبد الناصر كان لديه من الذكاء والدهاء أضعاف أضعاف ما لدى عبد المنعم عبد الرؤوف.
وكان هناك عامل شعبي ساعده قد لا يلم به إلا المؤرخون، إن النظم التي تكون مهيأة بحكم فسادها وتدهورها للسقوط، لا تحتاج إلى ما هو أكثر من ضربة، وفى روسيا كانت طلقتان من البارجة “أورورا” كافية لبث الذعر في وزارة كرنسكي التي لم تكن يدافع عنها سوى فرقة من المجندات، وتحدث لينين عن سقوط القيصرية كورقة شجرة أذرتها رياح الثورة، ولو كان لدى فاروق حمية وإرادة لوقف ضد هذه المجموعة الضئيلة التي سطت على القيـــادة بمحض المصادفة، ولكنه كان ملكًا منهارًا يمثل نظاماً منهارًا، وما كاد يطمئن على أنه سينجو بجلده وثروته حتى وقع بيان التنازل “لابنه”.
ومن المفارقات أن تنصر الحركة على يدي ألد أعداءها فقد نما علمها إلى الملك عن طريق حسين سرى عامر منافس حيدر، وخشى حيدر أن يؤثر هذا على مركزه، فأسرع إلى الملك وهون من شأنها وتعهد بكبتها.
وكان من المصادفات التي أدت إلى نجاح الحركة أن رئيس الأركان الفريق حسين فريد عندما علم نبأ الحركة، فإنه بدلاً من أن يأمر بتحريك أي لواء أو سلاح أو كتيبه فإنه قرر أن يذهب إلى مبنى القيادة في الوقت الذي كان الضابط يوسف صديق يتحرك قبل الميعاد المحدد له بساعة ليلتقي برئيس الأركان وبعض ضباطه قبل أن يعملوا شيئاً فاعتقلهم جميعاً.
وقد لا يعلم الناصريون أن القوة الضاربة التي تحركت ليلة 23 يوليو لم يكن معظمها من قوات “الضباط الأحرار” فقد كانت هي قوة البكباشي عبد المنعم أمين الذي زاره عبد الناصر واكتسب تأييده يوم 21 يوليو، كما اكتسب يوم 22 يوليو تأييد القائمقام أحمد شوقي قائد الكتيبة 13 التي كانت قد وصلت إلى القاهرة يوم 6 يوليو وعسكرت بالعباسية قادمة من العريش استعداداً لتحركها إلى السودان، إن هذين الضابطين الكبيرين لم يكونا من الضباط الأحرار واتصل بهما عبد الناصر قبل الحركة بيوم ويومين (يومي 21، 22)، بل إن كتيبة يوسف صديق التي قامت بالحركة الحاسمة وكفلت الفوز للحركة عندما ألقت القبض على قادة الجيش عند اجتماعهم قبل أن يعلموا شيئًا كانت وصلت إلى الهاكستب السبت يوم 13 يوليو.
وعمليًا كانت القوات التي تحركت ليلة 23 يوليو هي:
الكتيبة 13 وقائدها القائمقام أحمد شوقي الذي ضم إلى الحركة يوم 22 يوليو.
سرية القيادة للكتيبة الأولى مدافع ماكينة مشاه بقيادة قائد الكتيبة بكباشي يوسف منصور صديق، وكانت قد وصلت إلى القاهرة فى يوم 13 يونيو بمعسكرات هاكستيب.
وحدات من سلاح المدرعات والمركبات المصفحة لسد الطرق والمنافذ بين المنطقة العسكرية والمدنية وتأمين تحركات وحدات الكتيبة 13 مشاة.
وهذه كانت تتبع سلاح الفرسان الذي أسهم ضابطاه حسين الشافعي وخالد محيي الدين في عملية الانقلاب بالفعل.
بالإضافة إلى بعض وحدات مساعدة..
ولكن أهم من هذا كله أن اللواء محمد نجيب قبل أن يكون على رأس الحركة، وهو ضابط فيه كل ما ينقص عبد الناصر بالضبط، فيه البشاشة والطيبة والصراحة وحسن الخلق وأكسبته شجاعته أيام فلسطين الاحترام، بحيث أصبح رئيس نادى الضباط، وحال هذا دون أن يثور الضباط على الحركة، ولو كان رئيسها المعلن هو عبد الناصر لثاروا عليه، فبعد الناصر بكباشي مغمور قد يوجد ثلاثمائة بكباشي مثله في الجيش.
في صباح يوم 24 يوليو عندما استيقظ المصريون على نبأ الحركة يتلوه الضابط السادات ممهورًا بتوقيع اللواء أركان حرب محمد نجيب صفق الشعب المصري، كما صفق جمهور إنجلتراً لروبين هود “اللص الشريف”.
وأدخر شعب مصر تصفيقته الكبرى عندما يبدأ عبـد الناصر في إعادة السلطة إلى الشعب.
ولكن عبد الناصر ــ على عكس روبين هود ــ لم يفعل.
وفى مارس 1954م ضرب عبد الناصر عرض الحائط بآراء الجماهير وقياداتها التي كانت تريد أن يعود الجيش إلى الثكنات بعد أن قام بحركته وقضى على الملكية.
ضرب عبد الناصر عرض الحائط برئيس الثورة ورئيس الجمهورية، والرجل الذي أحبه شعب مصر من النظرة الأولى محمد نجيب.
وقضى مع القضاء على محمد نجيب، على علاقة مصر مع السودان التي تمسك بها السياسيون الحزبيون ووقفوا لبريطانيا بالمرصاد، وكان محمد نجيب رمزها.
وقضى على سلاح الفرسان روح الحركة.
وكان قد قضى من قبل على فرسان الحركة وأبطالها يوسف صديق وأحمد شوقي وعبد المنعم أمين الذين كانت قواتهم هي التي تحركت وهى التي استحوذت على السلطة.
وقضى على الإخوان المسلمين.
وقضى على الأحزاب وأولهم الوفد.
وقضى على الشيوعيين واليساريين.
وقضى على النقابتين اللتين مثلتا الرأي العام نقابة الصحفيين ونقابة المحامين، وكان من قبل شنق خميس والبقري أيام إضراب عمال كفر الدوار فأشاع الرعب في الحركة النقابية العمالية، ثم استلحقها.
وقضى على هيئات التدريس بالجامعات واستبعد القضاة بعد أن أشبع مفخرة القانون والقضاء السنهوري ضربًا وركلاً وهتف اتباعه “فلتسقط الحرية”.
وكان من دهاء عبد الناصر وتمكن الطبيعة التآمرية منه أنه عزل من قيادات الجيش بمجرد أن أستتب له الأمر كل الضباط العظام من درجة قائمقام فما فوق، ثم وضع على رأسه صديقه الحميم وتؤم روحه عبد الحكيم عامر الذي قام بالمهمة المطلوبة فكبح جماح أي بادرة لانقلاب وضمن تأييد الجيش له.
* * *
لم تكن 23 يوليو ثورة، أو انقلابًا، ولكن سطوًا على السلطة تحت جنح الظلام.
هذه الحقيقة التي هي في أصل مولدها صاحبتها حتى النهاية، وكانت هي طابع إنجازاتها التآمرية الجريئة، المثيرة، وبطريقة السطو نفسها.
لم يكن لـ 23 يوليو أي شرعية، بل إن وجودها كان نفياً للشرعية وإقامة لسلطة بدأت بالسطو تحت جنح الظلام وانتهت بالاغتصاب تحت سيف الإرهاب واستخدمت التزييف أسلوبًا وطريقة للحكم ليس فحسب للتغطية على الحقيقة، ولكن أيضًا استجلابًا للتصفيق والهتاف.
ولو كان عبد الناصر استجاب لطلب الشعب في 1954م لمسحت 23 يوليو عار الطابع التآمري الذي نشلت به السلطة، ولكن جاء موقفه تدعيماً لهذا الأسلوب وحكماً به قلباً وقالبًا.
كانت الخسة والدناءة هي طابع تعامل 23 يوليو مع خصومها وأبرزهم محمد نجيب الذي لولاه لما تقبلهم الجيش والشعب ومع الإخوان الذين ساندوا الحركة ومع آل أبو الفتح الذين أخبروا الضباط بانكشاف أمرهم والذين ساندوهم أول الثورة، ثم الإخوان الذين كانوا القوة الوحيدة التي لم تتحرك في 1954م، ولو تحركت لاجتاحت الجماهير محل عبد الناصر وأنصاره الذين كانوا كالفأر المذعور.
وإنما أخذت هذا الطابع لأنها لم تقم على قيم ولأنه سيطر عليها فرد واحد.
أعلم ماذا ستقولون..
أسئلة كثيرة يحفظها البعض كالببغاء.
أين الإنجازات ؟ أين مكاسب العمال والفلاحين ؟ أين القومية العربية ؟ ماذا تقول في 9 يونيو ؟ ماذا تقول في الشعب الذي خرج يوم مات عبد الناصر يبكى ويلطم ؟.
أسئلة عديدة جداً لدينا الرد عليها، إذا أردتم، وكان هناك مجال.
ولكنى سأجتزئ بالرد على سؤالين:
الأول: لماذا سكت خمسين عاماً طويلاً، ولم تجد الشجاعة إلا بعد أن مات عبد الناصر
والثاني: هل ننكر أنه لولا عبد الناصر لما أصبح فلاحون وعمال أساتذة جامعات ورؤساء أعلام، ولكانوا الآن في الحقول كبقية الفلاحين الذين حرموا من التعليم.
أقول رداً على السؤال الأول: أنني بعد أسبوع واحد من قيام 23 يوليو بدأت أكتب كتاباً بعنوان “ترشيد النهضة دراسة توجيهية للانقلاب العسكري في مصر” وأهديته إلى “الأبطال محمد نجيب وزملاؤه كي لا يكون الفجر الكاذب”، وأخذت أرسل إلى المطبعة ما أكتبه أولاً بأول وكانت مقدمته تعبيرًا عن “عشم” في هذه الحركة وأمل أن لا تنزلق، ليبدأ الفصل الأول وهو عن تقييم حركة 23 يوليو وأنها في التحليل الأمين انقلاب وليس ثورة ويأتي الفصل الثاني عن إمكانية تحويل الانقلاب إلى ثورة، وما يتطلبه هذا من “البحث عن عقيدة” وهو الفصل الثالث ثم “حزب من نوع جديد” وهو الفصل الرابع.
وكانت المطبعة ترسل كل ملزمة تطبع إلى الرقابة التي أخذت تدرس الملزمة الأولى التي تحلل ما حدث باعتباره انقلابا فجن جنونهم، وأمروا بمصادرة الكتاب وهكذا بينما كنت في المطبعة فوجئت بـ بوكس كبير يصادر “الملازم” ويأخذ على المطبعة تعهداً بعدم الطبع.
واتصلت ببعض المسئولين فطلب منى مقابلة كبير الرقباء وهو البكباشي أنور السادات فقابلته، فقال لي أن أربعة من الضباط قرءوا الكتاب، كل واحد على حده ووجدوا أن المصلحة تقضى بمصادرته.
وكان من الأعمال الأولى للحركة إعادة نظر قضية اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا وإلقاء القبض على القتلة (وكانوا معروفين)، وكان هذا عملاً حسنا حتى لو أريد به تدعيم الثقة بالحركة، ووجد الوالد رحمه الله أن علينا أن نشكر اللواء نجيب على ذلك، وهكذا جمعنا فزرنا أولاً اللواء نجيب ثم عرجنا على البكباشي عبد الناصر، وعندما عرفه الوالد بي سألني هل أنت شيوعي ؟ فلما نفيت هذا قال إذن ما هذا الكلام الذي طبعته، ومن هذا يتضح أن عبد الناصر ورقباء الحركة وعلى رأسهم السادات درسوا الكتاب وقرروا مصادرته.
فهل تريدون من الكاتب أن “ينطح” والمفروض أن يكتب. وقد كتب وصودر، فماذا يفعل لقد أيقنت أن عهد تحطيم الأقلام ؟ وتحطيم من يحملون الأقلام أيضاً ؟ قد استهل، وأن لا حل إلا تركهم حتى تؤدى بهم حماقاتهم.
من هذا يتضح أيها السادة أننا كتبنا كتاباً ورسمنا لهم خطة للعمل ولو أخذوا بهذا من الأيام الأولى لما انزلقوا إلى الديكتاتورية.
بقى السؤال الثاني، والرد أنكم أنفسكم دليل حي على جريمة عبد الناصر، كما أنكم ضحيته.
فقد أراد ــ كعادته ــ اكتساب الشعبية والديماجوجية ففتح المدارس على مصراعيها للجميع، دون أن تكون هناك مدارس كافية، ولا مدرسين فلم يتعلموا شيئاً، وانتقلوا التعليم إلى الثانوي، وليس هو بأفضل من الابتدائي، وإلى الجامعي وهى أسوأ من الثانوي، وهكذا تخرجتم لا تعلمون شيئاً وأصبحتم أساتذة وأنتم لا تعلمون شيئاً وكنتم وراء انحطاط وتدهور مستوى التعليم.
فقبل عبد الناصر كان المجتهد من أبناء أفقر الناس يدخل أرقى الجامعات مجاناً، بل ويأخذ إعانة شهرية، أما غير المجتهد فكان من الطبيعي أن يعمل في الحقل وهو عمل شريف، وعليه قامت حضارة مصر، أو في المصانع التي قامت عليها حضارة الدول الحديثة، ولكنكم أردتم الوظيفة، والشهادة، والمكاتب وألفاظ أستاذ ودكتور، في حين أنه كان من الأليق لكم والأفضل وللبلاد أن يعمل معظمكم في الحقول أو المصانع.