Search
Close this search box.

7 ــ محاربات في سبيل الله

ــ 7 ــ
محاربات في سبيل الله
ـــــــــــــــــ
الحرب هي أخشن مركب يضطر الإنسان للتورط فيه، لأنه يدخله قاتلاً أو مقتولاً جارحاً أو مجروحاً ولأنها تعتمد على القوة واليقظة فلو غفل طرفه عين عن خصمه لأصابه في مقتل.
من أجل هذا كان القتال “كرهًا” للمؤمنين.
ومن هنا فمن الصعب علينا أن نتصور محاربات يمارسن الحرب الفعلية جنبا إلى جنب الرجال.
ولكن كان في القتال الإسلامي ما يجعله فضيلة رغم كل الملابسات الكريهة التي يتلبس بها.
ذلك أن القتال الإسلامي كان دفاعاً عن استقلال الضمير، دفاعاً عن الكيان الروحي للإنسان، لم يكن القتال عدوانيا ولم يستهدف الغنائم أو السبي أو الفتح، ولكنه شرع وأصبح مسموحاً به، بل مأموراً به، عندما يُراد “فتنة” المسلمين عن دينهم، أي إعادتهم كفاراً وإرغامهم على الإيمان بدين لا يقتنعون به وهذا هو أعظم هوان يتعرض له الإنسان لأنه يستعبد روحه وضميره وحريته ومن هنا قال القرآن: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ( {216 البقرة}، وجاءت كل الآيات التي تضمنت قتالاً (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ( {39 الأنفال}، (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِيـنَ يُقَاتِلُونَـكُمْ وَلا تَعْتَـدُوا( {190 البقرة}.
من هنا كان القتال الإسلامي دفاعاً عن حرية العقيدة دفاعاً عن خصوصية الضمير.
ومن ثم فلا عجب إذا اشتركت المرأة فيه، لان المرأة إنسان أولاً ومن واجبها أن تحرص على حرية عقيدتها وسلامة ضميرها.
وقد بدأ اشتراك المرأة في القتال حتى قبل أن يشرع القتال.. لقد اشتركت المرأة في ملحمة الاضطهاد البطولية التي شنتها قريش على المسلمين الأول الذين آمنوا بمحمد في الأيام الأولى للدعوة وكان من هؤلاء نساء كثيرات أشهرهن “سمية” أم ياسر وأم عمار وعانت الأسرة كلها صنوف العذاب حتى سدد لسمية أحد عتاة المشركين حربته في مقتل فماتت شهيدة.
هذه أول روح مسلمة صعدت إلى بارئها بسبب الإسلام، وكانت عبده لأحد المشركين وكان يمكن أن تمضى حياتها كما تمضى الألوف وعشرات الألوف في نُكر، ولكن بطولة هذه الجارية رفعتها إلى سماوات البطولة والشهرة وجعلت مئات الألوف من النساء يحملن أسم “سمية” تبركاً وتقديراً للشهيدة الأولى في الإسلام.
ولن أشير هنا إلى المهاجرات اللاتي هاجرن من مكة إلى المدينة فراراً بدينهن، وبعضهن هاجر وحيداً وأخذ طريقه بين الصحارى والفلوات في سبيل الاستمساك الإسلام والحرص عليه، فهذا أما ليستحق مقالة خاصة.
وعندما جاءت الدفعة الأولى من مسلمي الأنصار إلى مكة مع الحاج عام 622، ليتصلوا بالرسول وليعقد ذي معه البيعة في العقبة الثانية، وهى بيعة حرب كانت المرأة ممثلة كان عددهم ثلاث وسبعون رجلاً وامرأتان هما نسيبه (أم عمارة) وأسماء بنت عمرو.
وفى أوسط أيام التشريق تسلل الجميع حتى لا يسمع بهم المشركون، فلما كانوا عند العقبة تسلقوا الشعب، وتسلقت المرأتان معهم حتى جاء إليهم الرسول فبايعهن بعد أن بايع الرجال.
أما أن المبايعة لهن قد حدثت فهذا أمر مقطوع به جاء في كل كتب السيرة، وأما طريقة المبايعة فقد زعموا أن الرسول لم يصافحهن وإنما كان يأخذ عليهن فإذا أقررن قال أذهبن فقد بايعتكن.
والحديث ظاهر الوضع، فما كان هناك تفرقه بين رجل وامرأة في أيام الرسول، وقد حققنا هذه النقطة وأثبتنا أن الصحابية الجليلة أم عطية مدت يدها لتبايع الرسول حتى ذكر أن لا يمارسن نوحاً على ميت فسحبت يدها لأن إحدى المشركات كانت قد ناحت في “مأتم” قريبــة لها، وكان عليها أن “تسعدها” أي أن تنوح إذا مات لها أحد وما كانت لتسحب يدها لو لم تكن المبايعة باليد، وقد جاء الأمر بالمبايعة من القرآن “فبايعهن” ولم يشر إلى تخصيص، فالأمر على إطلاقه.
وما أن بدأت الغزوات حتى اشتركت النساء فيها بدءاً من أحد، حتى حروب الشام والقادسية، وكانت هذه المشاركة تأخذ في الأعم صورة مداوات الجرحى مثل رفيدة التي كان لها خيمة قريبة من ميدان القتال وُوضع فيها سعد بن معاذ عندما أصيب “وكانت امرأة تداوى الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به صنيعة من المسلمين” كما جاء في الإصابة في تمييز الصحابة ص81 ج8.
“وروى مسلم عن أنس: “أن عائشة وأم سليم، كانتا في يوم “أُحُد” مشمّرتين، تنقلان القِرَب على متونهما (ظهورهما) ثم تفرغانها في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها”، ووجود عائشة هنا – وهى في العقد الثاني من عمرها – يرد على الذين أدعو أنَّ الاشتراك في الغزوات والمعارك كان مقصوراً على العجائز والمتقدمات في السن.
“وروى الإمام أحمد: أن ست نسوة من نساء المؤمنين كن مع الجيش الذي حاصر “خيبر”: يتناولن السهام، ويسقين السويق، ويداوين الجرحى، ويغزلن الشعر، ويعنَّ في سبيل الله، وقد أعطاهنَّ النبي نصيباً من الغنيمة”.
وعندما أراد الرسول الخروج إلى خيبر قالت أم سفيان الأسلمية للرسول يا رسول الله أخرج معك أخرز السقاء وأداوى الجرحى، فأذن لها الرسول وقال أن لك صواحب قد أذنت لهن من قومك أو من غيرهم فكوني مع أم سلمة.
وقالت أم عطية غزوت مع رسول الله سبع غزوات كنت أخلفهم في رحالهم.
وجاء في الإصابة (ج8 ص251) عن أم الضحاك بنت مسعود الأنصارية الحارثية أنها شهدت خيبر مع الرسول “فأسهم لها سهم رجل” وعند تحقيق هذه النقطة أورد خبرا أن الرسول قسم لامرأتين حضرتا القتال وهما أم الضحاك بنت مسعود أخت حويصه ومحيصه، وأخت حذيفة بن اليمان “أعطى كل واحدة منهما مثل سهم الرجل” وأهمية هذه الواقعة المساواة بين النساء والرجال فى الغنيمة، وكانت الروايات السابقة تذكر أن الرسول “رضخ” لبعض المشاركات فى المعركة “رضيخة” – وهى أقل من السهم.
أما نسيبه بنت كعب، وهى أم عمارة ومشهورة باسمها وكنيتها وسبق لها البيعة في العقبة الثانية فقد حاربت أمام رسول الله في أُحُد بالسيف عندما انكشف عنه أصحابه وأصابتها جروح وقال عنها الرسول “لمقامها خير من مقام فلان وفلان” وحاربت في معركة اليمامة جيش مسيلمة وأبلت بلاءً حسنا وقطعت ذراعها في المعركة.
أما أم حرام بنت ملحان زوجة الصحابي الجليل عباده بن الصامت الذي كان من قادة فتح مصر فقد وعدها الرسول أن تكون ممن يركبون البحر غزاة في سبيل الله، وتحقق لها ذلك عندما اشتركت في الأسطول الإسلامي الذي غزا قبرص ودفنت هناك.
واحتفظت المرأة المسلمة بهذا التقليد في حضور المعارك للتمريض أو القتال فروى عن أم موسى بن نصير أنها شهدت مع زوجها اليرموك فقتلت علجا (أى فارسا رومياً) وأخذت سلبه، وروى عن صفيه بنت أبى طالب أنها في خيبر قتلت يهودياً بعد أن أحجم حسان بن ثابت عن ذلك، وروى عن خوله بنت الأزور أنه كان لها دور مجيد في حروب الشام.
وجاء في مجمع الزوائد أن أسماء بنت يزيد بن السكن بنت عم معاذ بن جبل قتلت يوم اليرموك تسعة من الروم بعمود فسطاط “رواه الطبرانى ورجاله ثقات”.
وشهدت الخنساء موقعة القادسية ومعها بنوها الأربعة الذين استشهدوا جميعاً فقالت الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربى أن يجمعني بهم في مقر رحمته، وكان عمر بن الخطاب يعطيها أرزاق أبنائها الأربعة حتى قُبض، وهذه هي الخنساء التي لم تمل في الجاهلية من رثاء أخيها صخر، وقد خلقها الإسلام خلقاً جديداً.
* * *
وفى حرب صفين ظهرت جماعة من النساء من نصيرات الإمام على يخطبن بأفصح كلام وبأحسن بيان، ويثرن شجاعة الرجال وينددن بمعاوية وحفظ التاريخ لنا أسماؤهن وأقوالهن لأن معاوية نفسه لم ينس موقفهن، وأراد بعد أن أستتب الأمر لـه، أن يفهم دوافعهن فأرسل يطلبهن منهن سوده بنت عمارة بن الأشتر وبكارة الهلالية، والزرقاء بنت عدى التي قال لها والله يا زرقاء لقد شركت علياً فى كل دم سفكه ومنهن أم سنان بنت خيمة ومنهن عكرشة بنت الأطرش ومنهن درامية الحجونية التي صارحته “إني أحببت عليا لعدلـه في الرعية وقسمه بالسوية وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر وطلبتك ما ليس لك بحق.. الخ، ومن أم الخير بنت جرش التي قال لها معاوية بعد أن سرد ما قالته “ما أردت بهذا الكلام إلا قتلى ولو قتلتك ما حرجت من ذلك، ومنهن أروى بنت الحارث بن عبد المطلب.
كل واحدة من هؤلاء خطبت نثراً وشعراً وأثارت الحماسة وألبت الجموع.
وبعد صفين ظهر الخوارج وظهر معهم نساء لا تقل شجاعتهن عن الرجال ومنهن من لم نعرف لهن أسماء، كتلك المقاتلة التي أطلق عليها البلجاء التي قطع الوالي يديها وساقيها وصلبها ووقف تحت صليبها أحد الأئمة يتنهد ويطلب لها الرحمة.
ومثل تلك التي ضاقت بحياة المرأة وعكوفها على الزينة فقالت:
أحمل رأسا قد سئمت حمله
وقد كرهت دهنــــه وغسله
إلا فتى يحمل عني ثقله ؟؟
أما من ذكر لنا التاريخ أسماؤهن فأبرزهن غزالة زوجة القائد الشجاع شبيب بن يزيد الذي دوخ قادة بنى أمية، وهزمهم مراراً وتكراراً. أما غزالة فقد أقسمت لتدخلن المسجد الجامع بالكوفة فتصلى فيه ركعتين تقرأ فيهما سورتي البقرة وآل عمران، وعندما علم الحجاج وهو القائد الأموي الذي مكن بنى أمية وهزم كل معارضيها بذلك هرب من الكوفة!. ودخلت غزالة الكوفة جنباً إلى جنب زوجها شبيب وأم شبيب “جهيزة” وهى لا تقل شجاعة عنهما وأوفت بنذرها، وسجل الشاعر هذه الواقعـة في أبيات كست الحجاج عاراً أبد الدهر وذهبت مثلاً:
أسد علىّ وفى الحـروب نعامـــة
فتخاء تجفل من صفير العصافير
هلا برزت إلى غزالة في الوعي
بل كان قلبك في جنـاحي طائــر
أما قائد الأزارقة المشهور قطري بن الفجاءة فقد كان يحارب وجنبه أم حكيم وهى التي قال فيها:
لعمرك أنى في الحيـــــاة لزاهـد
وفى العيش ما لم ألق أم حكيـــم
من الخفرات البيض لم ير مثلها
شـــــــــفاء لـذي بث ولا لسقيـم
“وكانت من أشجع الناس قلبا وأجملهم وجهاً وأحسنهم بدينهم تمسكاً” كما جاء في الأغاني.
هل يمكن أن يقال بعد هذا أن المرأة عورة، وأن صوتها عورة، وأن عليها أن تلزم عقر بيتها لا تخرج منه إلا إلى قبرها ؟؟