Search
Close this search box.

9 ــ ثلاث مكافحات في سبيل الثقافة والمعرفة

ــ 9 ــ
ثلاث مكافحات في سبيل الثقافة والمعرفة
ـــــــــــــــــ
بقدر ما حث الإسلام والقرآن والرسول، المسلمين علي تعلم العلم، وإعمال العقل، والاستفادة بكل ثمرات الثقافة وما خلفته الحضارات السابقة، بقدر ما كانت الفكرة التي سادت المجتمع الإسلامي طوال عهوده كلها ــ باستثناء فترة النبوة الباهرة ــ إن هذا العلم يجب أن يقصر علي الرجال، وإن من الخطأ أن تعمم حتى يشمل النساء وراجت المقولة “علموهن الغزل ولا تعلموهن الخط”.
وبناء على هذه القاعدة الجائرة الظالمة حرمت المرأة المسلمة من العلم في حين أن المرأة تحتاج إلى العلم أكثر من الرجل، لأن العلم يكفل للمرأة سلاحا يمكن بفضله أن تجد عملاً أو تحترف مهنة وبهذا تنقذ نفسها من التشرد والضياع، وتحول بينها وبين أن تحترف أقدم مهنة في التاريخ ؛ البغاء فأنظر إلى حماقة هؤلاء الأسلاف الذين أرادوا أن يحموا بناتهن من الغواية فقذفوا بهن إليها.. !
سنعرض فيما يلي لثلاث سيدات كافحن كفاحًا طويلاً مريرًا حافلاً بالصدود والقيود التي تحول بينهن وبين شوقهن الجارف للثقافة والمعرفة ونور العلم وإرادتهن الحديدية لنيلها.
اثنتان منهما من مصر، والثالثة من فلسطين، وكأن حالهن يقول: “كلنا في الهم شرق”.
ــ 1 ــ
أما الأولى
فهي السيدة ــ الدكتورة فيما بعد ــ عائشة عبد الرحمن التي نشأت في دمياط، وهي أحد مصبي النيل في البحر الأبيض المتوسط فارتبطت بالنيل والبحر بحيث اختارت لنفسها اسم (بنت الشاطئ) وكانت أمها تنتمي إلى أحد شيوخ الأزهر، بينما كان أبوها شيخ من العلماء يمارس التدريس وينتمي إلى طريقة صوفية تجعله ينتقل لحضور الموالد والأعياد الصوفية، وقد سمح لها وهي طفله صغيرة أن تنتظم في الكتاب حيث أبدت ذكاء واستطاعت أن تتفوق في القراءة والكتابة وتحفظ القرآن.
وكانت تزهو على أترابها من البنات بهذه المعرفة ولكن هؤلاء البنات اللائى دخلن مدرسة نظامية تدعى مدرسة “اللوزي” رددن عليها حديثًا عجيبًا عن المدرسة وتحدثن عن “الأبلوات” اللطيفات وعن قاعات الدرس المزينة بالصور والخرائط.. الخ.
وذهبت إلى أبيها طالبة أن يلحقها بهذه المدرسة ولكن أبوها رد في حسم ” بنات المشايخ لا يخرجن إلى المدارس الفاسدة المفسدة، وإنما يتعلمن في بيوتهن”، وأمرها أن تتلو سورة الأحزاب حتى بلغت الآية ” يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ”.
واكتأبت عائشة وبان عليها الذبول والانطواء وحاولت أمها أن تقنع أباها بلا فائدة حتى تدخل جدها، وما زال بوالدها حتى انتزع موافقته بثلاثة شروط هي:
أن لا دخل لوالدها إطلاقًا بأي طلب للالتحاق أو إجراء من إجراءاته أو أي شأن يتصل بالمدرسة من قريب أو بعيد، (كأنما المدرسة رجس من عمل الشيطان لا يريد أن يحيق به !!..).
أن تتابع دارستها الدينية في البيت.
أن تنقطع نهائيا عن الخروج إلى المدرسة بمجرد أن تشارف سن البلوغ وذهب جدها وألحقها بالمدرسة.
وتفوقت في المدرسة بفضل دراستها الدينية في الكتاب وما كانت تلتقطه من أحاديث والدها.
وأتمت الدراسة بمدرسة ” اللوزي ” وقد جاوزت سن العاشرة. التي حددها والدها لحجزها في البيت.
وكانت لذت التعليم قد تملكتها، ونشوة المعرفة تدفعها لأن تدخل المدرسة الراقية التي تواصل فيها بنات مدرسة “اللوزي” دراستهن.
ورفض والدها في إصرار، ولجأت أمها إلى جدها وأخذ الجد يحادث الأب وطالت المجادلة حتى تحولت إلى مشادة وخصومة خرج جدها على أثرها ثائرًا، مغضبًا فلم يلتفت إلى دابة كانت تعبر الطريق مسرعة فألقت به، فلم ينهض بعدها على ساقه، وحملوه إلى البيت فظل به مقعدًا كسيحًا وأرسلها أبوها لتعني بجدها، ولكن هذا الجد النبيل عمل على أن تلتحق بالمدرسة الراقية، وكره أبوها أن يدخل في جدال جديد مع جدها فاستسلم للأمر الواقع.
وكان جدها هذا متفتحًا يقرأ الصحف بانتظام وكانت عائشة تحضرها له، وتقرأ له بعضها، وكان يملي عليها كتابات يرسلها إلى المسئولين أو إلى الصحف فزادت ثقافتها، وأتمت الدراسة في المدرسة الراقية وكانت قد بلغت الثالثة عشر وهي سن الحجاب فضلاً عن أنه لم يكن في دمياط مدرسة أعلى يمكن أن تنتظم فيها وكانت أقرب المدارس إليها هي مدرسة المعلمات بالمنصورة وطمحت عائشة لدخول مدرسة المعلمات وشاء الله أن يتفق ميعاد امتحان المتقدمات في وقت كان أبوها مسافرًا في إحدى رحلاته الصوفية لحضور موالد آل البيت، وجازفت أمها فتسللت بها من دمياط إلى المنصورة وتركتها في القسم الداخلي بمدرسة المعلمات حيث أدت الامتحان وعادت مسرعة لتأخذ أول قطار يعود بها إلى دمياط.
وبعد فترة فوجئت بأن زميلاتها اللائى أدين الامتحان معها تلقين إخطارا من المدرسة بالحضور للانتظام في القسم الداخلي، ولم يصلها شيء مع أنها كانت الأولى في الامتحان.
وأشار جدها بأن تكتب إلى المدرسة فجاء الرد أن والدها تقدم إلى المدرسة بصفته ولي أمرها وسحب منها كل أوراق التحاقها بها.
وجن جنون عائشة، وأضربت عن الطعام حتى خافوا عليها وتجمعوا على والدها، ولم يدعوه حتى وعد بأن يرسل خطابًا إلى إدارة المدرسة، وماذا فعل هذا الوالد برا بوعده ؟
لقد وضع ورقة بيضاء في ظرف أغلقه وكتب عليه عنوان المدرسة، وبذلك تحلل من وعده بأن يرسل خطابًا إلى المدرسة !!
ومضى شهران على بدء الدراسة وانكشف الأمر وعادت الأزمة وهنا لاذت والدتها بشيخ والدها في التصوف الذي أمر بأن يسمح لها بمواصلة الدراسة، وأسرعت فأعدت كل ما طلبته المدرسة من ملابس ومتاع لدخول القسم الداخلي، ولكنها فوجئت بأن لا مكان لها في المدرسة فقد استكملت العدد، وقبل أن تفيق من ذهول الصدمة قالت الناظرة: إن من الممكن أن تحول أوراقها إلى مدرسة ستفتح قريبًا في حلوان بالقاهرة وستجد مكانا لها فيها، وتطوعت فكتبت بعض الأوراق اللازمة.
وبدلاً من أن يوهن هذا الإخفاق من همتها ومن همة والدتها فإنه دفع الوالدة لأن تعود إلى دمياط لتبيع سوارًا ذهبيًا، وقطعت لها ولعائشة تذكرتين في الدرجة الثالثة في القطار الذاهب إلى القاهرة وليفعل الشيخ ما يشاء.
وكان لأمها خال في القاهرة أخذهما إلى حلوان ليفاجأ بأن الدراسة لن تبدأ إلا بعد أسبوعين ولكن الناظرة كانت كريمة، فأشفقت على هذه الفتاة الريفية، وعلى أمها المضحية، وقبلت أن تقيم عائشة في المدرسة لحين الافتتاح واطمأنت أمها إلى أنها في رعاية سيدة كريمة، فودعتها وعادت إلى دمياط لتقف وحدها في مهب الإعصار، وعلى وجهها نور الاستشهاد !
ورغم هذا، فقد وجدت عائشة الويل من الروتين والإجراءات، فسقطت في الكشف الطبي لأنها استعارات نظارة عمها بفكرة أن النظارات كلها سواء، وأخذها عمها إلى محل للنظارات صنع لها نظارة تتفق مع مقاس نظارها، ولكن الطبيبة الإنجليزية رفضت إعادة الكشف وبعد جهود مستميتة تقرر أن تلتحق بمدرسة معلمات طنطا، وأمضت العام هناك ونجحت بتفوق ولم تكن طوال هذا العام تعلم بما جرى في منزلهم فقد توفى الجد دون أن تراه، وفقدت بفقده نصيرا لها وتمسك أبوها بضرورة إعادتها إلى الطريق المستقيم الذي انحرفت عنه ووصل التوتر بين أمها وأبيها حدًا هدد بأن تفقد أخواتها شقيقات خمس وشقيقان بيتهم، فوجدت أن عليها أن تضحي وأصيبت بمرض حال دون دخولها وشطب اسمها.
لكن الإرادة القوية لا تعرف المستحيل.
لقد استعارت الكتب المقررة على السنة النهائية بمدارس المعلمات ودرستها من المنزل ثم تسللت من البيت خلسة، وأبوها مسافر حيث أدت امتحان شهادة الكفاءة للمعلمات أمام لجنة مدرسة طنطا وكانت الوحيدة التي تقدمت من المنزل ونجحت وكانت الأولى.
وكان أقصى أمانيها بعدئذ أن تستكمل دراسة “القسم الإضافي” الذي يمكنها من التخرج ويؤهلها أن تكون معلمة في المدارس الابتدائية، ولكن الله تعالى كان يريد لها شيئا لم تكن تحلم به، ولكنها ما أن علمت به حتى عضت عليه بالنواجذ كما يقولون، وأبت إلا أن يتحقق.
ذلك أن أساتذتها في الامتحان الشفهي أعجبوا إعجابا شديدًا بحسن تلاوتها للقرآن الكريم ثم بمحفوظاتها من الشعر في الجاهلية، والإسلام ثم من شعرها هي فاستخسروا أن تقف هذه الموهبة عند شهادة المعلمات ووجهوها لأن تدخل الجامعة !
الجامعة !
أي حلم، وأي عالم لم تكن تعلم عنه شيئا ولم تفكر فيه أصلاً.
قبل أن يسرح فكرها إلي هذا العالم العجيب فاجأها المعلمون الممتحنون بأن هذا يقتضي تغيير مسارها التعليمي، وأن عليها أن تبدأ من أولي مراحل التعليم النظامي فتأخذ شهادة الابتدائية وأن تلم باللغة الإنجليزية والفرنسية اللتين كانتا مقررتين.
إن كل أمجادها من قرآن وشعر لم يكن ليجديها شيئا أمام نظام التعليم المدني الذي وضعه الاحتلال البريطاني لمصر ومستشار التعليم “مستر دنلوب”، وكان معني هذا أنها وقد كادت بشق الأنفس تأتي إلي النهاية أن تنكص مرة أخري إلي بداية جديدة عليها بالمرة.
لم يكن من السهل عليها وقتئذ أن تقبل القرار، فمضت في خطها التعليمي وعينت لأنها كانت الأولي في كفاءة المعلمات معلمة في مدرسة معلمات المنصورة حتى تظفر بالإقامة الداخلية وتبعد عن جو والدها ومنغصاته اليومية لها، وتركز حلمها في دخول امتحان القسم الإضافي، ولكنها فوجئت قبيل الامتحان بأربعة أشهر أن الامتحان هو من حق المقيدات بالمدرسة دون المنتسبات من خارجها.
وكافحت مع رجال التعليم، ولكن المراقب نصحها أن تعدل عن التمسك بدخول القسم الإضافي وأن تتقدم للامتحان في الشهادة الابتدائية وهو مباح للجميع، ولم يكن هناك مجال للتردد لأن أخر موعد لتقديم الطلبات كان هو اليوم وأمر المراقب فأحضرت استمارة من ديوان الوزارة وجلست علي مكتبه فملأت خاناتها باستثناء كتابة اسم التلميذة بالإنجليزية فكتبه لها أحدهم علي ورقة، وكان عليها أن تنقله كما ينقل الرسم، كان القدر يسوقها إلي مصيرها رغم أنفها ورغم أنف والدها.
وخلال هذا التحول من نظام المعلمات الذي كان موجودا في الأقاليم ويقوم علي الدين والأدب العربي وما إلي ذلك إلي نظام التعليم المدني الذي يقوم علي اللغة الأجنبية وعلى الطبيعة والكيمياء.. الخ. عانت عائشة عبد الرحمن الأهوال.
وأضيف إلي معاناتها أن عليها أن تجابه الحياة المدنية الحديثة، وهي الفتاة القروية التي لم تخرج من قريتها إلا إلي المحافظات وعليها أن تعيش في القاهرة عيشة القاهريات وقد ظنت أن الحياة في الأقسام الداخلية تنقذها من هذا المأزق، ولكنها عندما عينت كاتبة بكلية البنات بالجيزة ودخلت قاعة المائدة انذهلت لما تري من موائد، تبرق عليها الشوك والملاعق والسكاكين والأطباق ولم تكن قد أمسكت بشركة أو قطعت لحما “بسكين”، فتعللت ورفضت أن تتناول الغداء في مطعم المدرسة، وتصورت أنه سيكون عليها أن تدفع ثمن ما ستأكله، وأخذت تقيم أودها بسندوتشات من الفول والطعمية والجبن حتى شكت وكيلة المدرسة وكانت متجاوبة معها، فأسرت إليها بأن مرتبها لا يكفي لسداد ثمن الوجبات ثم أنها لم تألف استخدام الشوكة والسكينة، فأخبرتها الوكيلة أن الأكل مجاني لموظفات المدرسة، واستخدام أدوات المائدة فيمكن تناول طعامها في غير ميعاد تناول الآخرين حتى تتدرب علي استعمالها.
وكان عليها أن ترد علي أسئلة باللغة الإنجليزية والفرنسية وهذه كانت قد تعلمتها كما كان عليها أن ترد علي أسئلة عن الكيمياء والطبيعة وهي التي لم تدخل في حياتها ” معمل ” كيمياء ولا تتصور كيف يكون ولكنها حفظت مقرر الكيمياء والطبيعة في المغناطيسية والكهرباء والحرارة، وعندما جاءها سؤال عن طرق نقل الحرارة مع ذكر خاصية الترمس في حفظ الحرارة، أجابت علي الشق الأول من السؤال بما حفظته، ولكنها وقفت عند الشق الثاني لا تفهم ما دخل الترمس، وقد حسبته البقل المعروف في سؤال عن الحرارة واستنتجت أن أهل العواصم والمدن الكبرى قد يستخدمون الترمس في ترطيب المياه الحارة علي نحو ما قرأت من استخدام الحصى ونوي المشمش لتنقية المياه العكرة.
وبعد أن خرجت من الامتحان سألت إحدى زميلاتها عن الترمس فقالت لها مندهشة أي ترمس إنه “الترمس” بضم التاء وهو جهاز لحفظ الحرارة وأظهرتها إحدى زميلاتها على ترمس تحمله وفتحته وناولتها كوبا من الليمون المثلج وأخبرتها أن الترمس يحتفظ بالحرارة أيضًا للشاي طوال اليوم، وعندما علم الجميع ممتحنين وطالبات بحكاية الترمس أصبحت نكتة وأصبحت صاحبتها مثارا للعطف لا السخرية.
في مقابل هذا، بدأت الدنيا تبتسم لها، وبدأت القاهرة تتصالح معها.
كانت السيدة لبيبة أحمد رئيسة تحرير مجلة الفتاة قد عهدت إليها بكل أعباء المجلة وتخلصت من رئيس تحريرها ومدير إدارتها وأوكلت إلى هذه الفتاة القيام بذلك، وكانت تكتب الافتتاحية وتختتمها باسم السيدة لبيبة أحمد، وتراجع البروفات، وتعد المجلة وتكتب معظم الأبواب ثم تأخذ المجلة من المطبعة فترسل الأعداد إلي المشتركين بعد أن تكتب أسماءهم للبريد بخط يدها وتحمل الأعداد للبريد.. الخ، وكانت السيدة تمنحها أربعة جنيهات ونصف الجنيه.
واتصلت بالصحف، وبدأت تكتب وأعجب بها رئيس تحرير الأهرام الأستاذ أنطون الجميل، وهو نفسه كاتب وشاعر فأفسح لها مجالا في الكتابة، ثم ضمها لهيئة تحرير الأهرام الموقرة وجعل لها مكتبًا في مكتبه، وكان أبوها قد قرر أن يحل هذه المشكلة المستعصية بتزويجها لابن أحد أصدقائه.
وكانت تخطو خطوة نحو باب الجامعة ثم تعود فتنكص حتى وجدت نفسها ذات يوم وهي مندفعة تحمل أوراقها لتتقدم إلى كلية الآداب.
ودخلت كلية الآداب منتسبة لتعود إلي عالمها القديم حيث أمجادها: القرآن الكريم والأدب العربي كما كانت مسوقة بقدرها لترتبط بالرجل الذي تصورته في أحلامها، لترتبط به وليكون أستاذها ثم زوجها.
لقد تم هذا كله فدخلت كلية الآداب والتقت بأستاذها الذي أعجبت به ثم أحبته ثم تزوجته، كان ذلك تكليلا لكفاحها القديم وبدء لمرحلة أخري خلت من التنغيص والتهديد بعد أن لم يعد لأبيها شأن في مستقبلها، ولعله في نهاية المطاف أدرك خطأه عندما حاول بكل قوة لكي يمنع ابنته النابغة من أن تكون “شيخة” في الحديث والقرآن، يتتلمذ علي يديها أساتذة وتطلب للإشراف علي الرسائل الجامعية من جامعات بعيدة وتحل محل الإعزاز والتقدير في دوائر ” المغرب ” التي اعتبرتها من أساتذة جامعاتها.
لماذا بالله عليك يا شيخ أردت أن تحول دون هذا كله، وأردت لابنتك أن تكون ريفية كملايين الريفيات اللاتي قعد بهن الجهل واصبحن حبيسات البيوت ؟.
يقف حديث بنت الشاطئ، هذه المكافحة في سبيل الثقافة والمعرفة من عشرينات القرن الماضي حتى منتصفه عندما تزوجت بالشيخ أمين الخولي أستاذها ولكنها فجعت بوفاته سنة 64 وعز عليها أن يأخذوه منها ليدفن في قريته “شوشاي” بالمنوفية، لقد كان حيًا معها في خيالها، وحيًا في بناتها، وحيًا بما سجلته عنه وله في كتابها الممتع “علي الجسر”.
“عليك سلام الله، إن تكن عبرت علي الأخرى فنحن علي الجسر”، وقد ظلت علي الجسر ثلاثين عامًا، قبل أن تلحق به.
ــ 2 ــ
وأما الثانية
فهي من بلـد عربي قريب، يثبت تصرف الأب نحو ابنتــه فيها أن ازدراء الأنثى هو ما يدخل فيما قاله الشاعر: ” كلنا في الهم شرق”.
وللوهلة الأولى، يكون من العسير أن نتفهم ازدراء الأب لبناته، بل ما هو أعجب ازدراء الأم نفسها لبناتها والضيق بهن وتفضيل الذكور عليهن، مما يخالف الطبيعة البشرية، ولكننا لو تعمقنا في دراسة المجتمع البشري لأدركنا أن التقاليد ـ أي العادات المتكررة التي يقبلها المجتمع جيلا بعد جيل حتى أصبحت تقليدا، نقول إن هذه التقاليد تصبح في حالات عديدة ” طبيعة ” لدى الأباء والأمهات أقوى من الطبيعة البشرية التي غرسها الله في الإنسان، وإلا فبماذا نفسر أن تربي الأم الصعيدية ابنها ليأخذ بثأر أبيه المقتول، وما يكاد يبلغ الرشد حتى تعطيه بندقية أبيه، وتدفع به ليثأر له، وهي تعلم أن نتيجة ذلك أن ابنها قد يقتل، أو يحكم عليه بالسجن المؤبد، فمن أين استمدت الأم هذه الشجاعة والإصرار، إن لم يكن من التقاليد، أو كيف نفهم أن الأب القبطي الصعيدي في رواية البوسطجي ليحيى حقي يقتل كأي صعيدي مسلم ابنته عندما يتيقن من سوء سلوكها.
ونحن نعلم أن الله تعالى عندما أراد أن يختبر طاعة إبراهيم أمره بذبح ابنه الوحيد وأطاع هذا، وطبقا لما جاء في التوراة، أخذ ابنه وجمع الحطب ليكون محرقة، وعندما أراد أن يرقده ليذبحه تراءى له ملاك وفي يده كبش وهذا هو أصل التضحية الإسلامية في عيد الأضحى بكبش. وقبل أن تتدارك رحمة الله الأمهات كانت الأمهات يقذفن بأبنائهن الرضع في الحضن الملتهب للإله الوحشي “مولوخ”.
لقد عطلت هذه التقاليد الطبيعية البشرية لدى هؤلاء، وأحلت محلها التقاليد القديمة المغروسة في أعمق أعماق المجتمع.
هذا وحده هو الذي يفسر لنا ازدراء الأب لبطلتنا ـ فدوى طوفان التي ولدت في نابلس في أسرة ثرية حسنة الحال، ولكنها كانت في ناحية المرأة متزمتة كأشد ما يكون التزمت فعندما دخلت المدرسة طفلة في الثانية عشرة من عمرها وأرسل إليها طفل آخر ياسمينتين أو فلتين ثارت ثائرة الأسرة وحرمت الطفلة المسكينة من المدرسة ثلاثين عامًا ! وهذا شئ إذا كان غريبًا أو شاذًا أ فإنه في هذه الأسرة والتي كانت تمنع بناتها من الضحك في غرفهن الخاصة لا يعد شاذًا أو غريبًا.
ولم تأبه الأسرة عندما وقفت الطفلة المسكينة وفي يدها صفيحة الجاز واليد الأخرى عود الثقاب لتنتحر حرقًا، فإذا كانت لم تتم هذه المحاولة، ولم تستطع أن تهتدي إلى السم الذي ينهي حياتها، فإنها انكفأت على نفسها تمضي الساعات تحدق في إبهام يدها اليسرى دون أن يطرف لها جفن.
وكان أخوها الكبير يوسف هو الذي أصدر قرار حرمانها من الدراسة، ولم يكن في قلبه رحمة، فقد كان ملاكما وبطلاً في حمل الأثقال.
والغريب أن هذه الأسرة كانت توفد أبناءها إلى مدارس أجنبية والجامعة الأمريكية لتحصيل العلم والتزود من الثقافة الأوربية، ولم تفكر رغم تقليديتها أن ترسلهم إلى الأزهر الذي كان قبلة الأسر التقليدية.
أما أبوها فما كان يطيقها، ولا حتى أحست نحوه بعاطفة البنوة، وكانت والدتها قد أرادت أن تخلص منها وهي جنين ففشلت وعندما ولدت عهدت بها إلى صبية كانت تعمل في المنزل، وما أن شبت الطفلة قليلاً حتى صارت أمها تعاقبها إذا أخطأت بدعك شفتيها ولسانها بالفلفل الحار وظلت تتحمل معاناة أمها وبقيت سنوات طوال تراها في الحلم وجها لوجه وهي صامته “وأنا يغمرني شعور بالقهر الكتوم إحساس عنيف بالغيط والظلم، أحاول الصراخ لأعبر لها عن ظلمها لي ولكن صوتي يظل مخنوقًا في حلقي فلا يصل إليها”.
هذا عن أمها، فماذا عن أبيها؟
لم تسمع من أبيها كلمة حب مرة واحدة، حتى عندما أصيبت بالملاريا، بل إنه لم يكن يسميها باسمها، بل يقول “البنت” وعندما كان يريد أن يبلغها أمرًا كان يستخدم صيغة الغائب ولو كانت حاضرة فيقول لأمها قولي للبنت تفعل كذا بينما كانت بقية أفراد الأسرة تدعوها لشحوبها وهزالها “الصفراء” بينما هي في براءة الأطفال تدعو الله في ليلة السابع والعشرين من رمضان أن يعوضها بخدين موردين ينقذانها من التجريح.
في هذا الجحيم عاشت فدوى طوقان، وكان يمكن ألا يسمع باسمها أحد، فما أكثر الضحايا المجهولة من النساء “بالملايين من الخديجات والزينبات والفاطمات والعائشات، من اللاتي عشن مقهورات ومتن وفي النفس غصة، ولم يسمع بهن أحد”.
ولكن الله تعالى رأف بحالها وأرسل إليها ملاكا في شخص أخيها إبراهيم الذي كان يطلب العلم في الجامعة الأمريكية بعيدًا عن الأسرة، فلما أتم دراسته عاد إليها، وكانت عودته إنقاذًا لفدوى فبقدر ما كان أخوها يوسف قاسيًا غشومًا، بقدر ما كان إبراهيم رقيقًا عطوفـًا كريمًا يفهم أخته المسكينة ويلمس آلامها الدفينة ويلحظ شغفها بالعلم والمعرفة التي حرمت منها كانت علاقة حب وحنان وعطف، كانت أشبه بالأمطار التي تروي الأرض الجافة التي شققتها شمس حامية، لقد بدل إبراهيم جحيم حياتها نعيمًأ، وأوحى لها بالأمل وفتح طاقاتها الكامنة بعد أن علمها النحو والإملاء والعروض ووثق علاقتها بالشعر التي كانت تود أن تعالجه وخرج بها إلى العالم الرحب عالم الأدب، وعالم السياسة وعالم القضية الفلسطينية فإذا هي شاعرة فلسطين وإذا شعرها يترقرق آونة كالنسيم العليل، ويعصف آونة كعصف الريح وإذا هي قد تخلصت من القهر والانكسار والذل والانطواء تخرج إلى المجتمع وتقابل جيهان السادات وأنور السادات وأعور بني إسرائيل وجنرالها موشيه ديان وتنغمس في الخطاب السياسي وفي الجو الأدبي تثبت في هذا كله كفاءة أو إضافة وتقف مع شعراء فلسطين محمود درويش وسميح القاسم وإذًا هي من أبرز المحامين والمدافعين عن قضية بلادها، فلسطين.
لقد كان كل هذا مكنونًا ومكتوباً تحت غشا وات الظلم والقهر، فما أن تفتحت لها طاقة حتى تفجرت مواهبها كالشلال.
لقد ظلت فدوري طوقان حاملة جميل أخيها العزيز الشفيق الذي بدل جحيمها جنة، وعندما مات رثته بأجمل مما رثت به الخنساء أخاها صخراً.
لقد قصت فدوي طوقان قصة حياتها في كتابها باسم “رحلة جبلية” وما كان أقساها من رحلة، وما كان أشق من أن تصعد من السفح المظلم إلي القمة المضيئة، ولكن أهم من هذا أنه قدم لنا مثالاً لقهر المرأة ولما يصل إليه القهر من كبت للمواهب ما لم ترزق حظاً استثنائيا كما كان حظ فدوى طوقان.
ــ 3 ــ
وأما الثالثة
هذه الثالثة كانت أعجبهن ذلك أنها لم تدخل مدرسة أو كتابا في طفولتها فقد انتقلت أسرتها إلى القاهرة حيث لا توجد الكتاتيب، وإنما المدارس وأهملت أمها إدخالها أي مدرسة عندما نصحوها بذلك، وكان عليها أن تتعلم القراءة والكتابة بطريقة ذاتية دون معلم، وقد تمكنت من هذا لأنها كانت تجلس بجوار شقيقها الذي يكبرها بعشر سنين وكان طالبا بمدرسة ثانوية وكان يقرأ بصوت عال مقررات المدرسة في الأدب العربي من قصائد وكانت هي بجانبه، فكانت تحفظها بمجرد سماعها، وتوسلت إلى شقيقها أن يعلمها الحروف الأبجدية فلم تكد تتعلم ذلك حتى أخذت تقارن ما حفظته من الذاكرة على القصيدة المكتوبة وبتكرار ذلك عرفت قراءتها وكأنها شامبليون الذي توصل لمعرفة الهيروغليفية بمقارنة حروفها بالحروف اليونانية في حجر رشيد وكانت تعتقد أنها لا تستطيع أن تقرأ غيرها حتى وقع في يدها كتاب “قصة حسن الصائغ البصري” فاستطاعت أن تقرأ عنوانه وأخذته واكتشف أنها تستطيع أن تقرأه، أي أن باب القراءة الفسيح قد انفتح أمامها، فبدأت تقرأ بعض القصص الشعبية وألف ليلة وليـــلة وقصة عنترة.. الخ، ثم انتقلت إلى دواوين الأدب فقرأت شعر عمر بن أبي ربيعة وأبي نواس ومجنون ليلى، الإرادة والذكاء كانا مفتاح مسيرة نبوية موسى وهما اللتان مكناها من التعليم بهذه الطريقة، بل وتمكنت من أن تكتب الشعر في طفولتها ولما لم تكن تعرف النحو فقد أخطأت في إعراب كلمات، ولما شاهدها قريب لها أعجب بها وقدم لها الجزء الأول من كتاب النحو لتتعلم قواعد اللغة والتهمته التهامًا، كما بدأت تقرأ القرآن الكريم.
وكان والد نبوية موسى ضابطًا في الجيش المصري ذهب إلى السودان، ولم يعد، واعتبر قتيلاً أو أسيرًا أو مفقودًا فقررت الدولة لأسرته معاشًا، وكانت أمها سيدة لا تحب السيطرة فلم تتحكم في تربية طفليها (ولد وبنت) وتركت لهما قسطًا كبيرًا من الحرية، وكانت تحبهما حبا جما، وقد اشترت لنبوية في طفولتها مصاغًا كأنما هي عروسه.
وطمحت نبوية موسى إلى دخول المدرسة السنية، وكان عليها أن تتعلم مقرر الحساب وهو جمع وطرح وضرب وقسمة الأعداد والكسور الاعتيادية وكان سنها وقتئذ 12 سنة فأحضرت كتاب الحساب وعكفت عليه واكتشفت أنها موهوبة في الحساب وفي الوقت نفسه كان عليها أن تتعلم أوليات اللغة الإنجليزية وهذا أيضا ما توصلت إليه بملازمتها لأخيها واختلاسها منه فتات ما كان يعلمه، وعندما أعدت نفسها أعلنت عزمها على الالتحاق بالمدرسة، ولكن أمها رأت في هذا خروجًا على قواعد الأدب والحياء ومروقا من التربية والدين، فسرقت خاتمها وذهبت إلى المدرسة وكتبت استمارة التحاق بها وختمتها بختم أمها.
المشكلة كانت في الخط، فقد رأينا أنها تعلمت القراءة بطريقة ذاتية ولكنها لم تمارس الكتابة وكان القلم يلعب بها بدلاً من أن تلعب به وكانت إجاباتها إجابة صحيحة ولكنها مكتوبة بخط الأطفال، ولكي تغرى إدارة المدرسة بقبولها أعلنت أنها ستدفع المصروفات، وكان يمكن أن تدخلها بدونها، فقبلوها وكادت تطير فرحًا وعادت إلى المنزل تحمل البشرى لأمها التي حاولت ثنيها ولكن نبوية أكدت أنها إذا لم تسمح لها فستدخل “داخلية” فخافت أمها وقبلت، أما أخوها فأعلن أنه سيقاطعها إذا دخلت فقالت إن هذا سينقص من أقربائي واحد، ولا ضير في ذلك، فقاطعها فعلاً لمدة سنة ولكنه عاد.
دخلت نبوية موسى المدرسة السنية فدخلت عالما جديداً عالما كان يقف على قمته المستر دانلوب مستشار التعليم الإنجليزي العتيد، وكان نصف المدرسات إنجليزيات والناظرة إنجليزية، ولكن كان من ضمن الأساتذة فطاحل أمثال الشيخ حمزة فتح الله، لم تستخذ أمام هذا العالم العجيب، لأن قوة إرادتها أنقذتها، بل جعلتها تعارض ما لا يعجبها كما حدث في مادة الصرف لأنها كانت ترى أنها تفهم وتقرأ وتكتب دون حاجة إليها، ولما عقد أستاذها امتحانا فإنها بدلاً من الإجابة ردت بثلاثة أبيات فيها:

رمتني صروف الدهر لا در دره ولا خير في فعل إذا رمت صرفه
فإن تكسروا للفعـــل عينا فإنني كسرت ذراع الفعل عمدًا وأنفـــه
وأن كان معتلاً فلســــــت طبيبة دعوه، دعوه عله يلق حتفـــــه
عن هذه الجرأة، والمقدرة من فتاة هذه ظروفها، وفي سن 13 سنة توضح لنا أن ملكات النفس وخلالها أهم من أي شيء آخر من أجل هذا نجحت نبوية موسى في كل سنوات دراستها وكانت عادة الأولى.
واصطدمت نبوية موسى مع ناظرة المدرسة السنية التي ظنت أنها تحرض الطالبات على كراهية الإنجليز ــ ولم يكن هذا صحيحًا ــ فعندما نجحت في دبلوم المعلمات وكانت الأولي كان يجب أن تعين مدرسة في السنية، ولكن الناظرة الإنجليزية قالت أنها لا تسمح لمكان واحد أن يضمها ويضم نبوية موسى إلا القبر وهكذا عينت مدرسة بمدرسة عباس الأميرية بمرتب ستة جنيهات.
واكتشفت أن زملاءها من الرجال يتقاضون أثنى عشر جنيها فلما سألت عن سبب هذه التفرقة قيل لها إنهم حصلوا على البكالوريا، وعقدت العزم على أن تنال البكالوريا وملأت استمارة الدخول وكانت هي الوحيدة التي تجرأت على ذلك وحاول المستر دانلوب نفسه أن يثنيها وأن يخوفها من البرنامج، فلم تأبه، ودرست البرنامج وفي سنة 1907 دخلت الامتحان ونجحت وكان ترتيبها 43 من 200.
حدثت ضجة كبيرة لأنها المرة الأولى التي تنجح فتاة في البكالوريا وكتبت عنها الصحف مرارًا وتكرارًا، ولم تنجح مصرية بعدها في امتحان البكالوريا إلا سنة 1928، بل إنها هي نفسها وصفت هذا ” لو إني فتحت فرنسا لما كان لاسمي رنة أشـد مما كان بعد تلقى البكالوريا”.
وكان تعليم البنات محدودًا ففي يونيو سنة 1901نجح في شهادة الابتدائية لأول مرة ثلاث تلميذات هن ملك حفني ناصف، وفيكتوريا عوض، وانجرا بلنتر وفي أكتوبر سنة 1901 فتح قسم المعلمات ودخل فيه هؤلاء الثلاثة في السنة الأولى وفي سنة 1903 نجح في امتحان دبلوم المعلمات ملك حنفي ناصف وفيكتوريا عوض وعينتا في سنة 1903 مدرسات بمدرسة السنية، وفي هذه السنة 1903 دخلت نبوية موسى قسم معلمات السنية وكان البرنامج ثلاث سنوات وكان مجموع الطالبات في السنوات الثلاث 15 طالبة وكان مستوى الدراسة مرتفعًا، وكان الطالبات يتكلمن بالإنجليزية أفضل من الحاصلين على الشهادات الجامعية، وكان منهن من تتكلم الإنجليزية كإحدى بناتها، كما كان مستواهن في اللغة العربية مرتفعًا وكان هذا يعود إلى ارتفاع مستوى التدريس، فالتي كانت تدرس الإنجليزية مس كارتر ظلت في مصر 38 سنة وقد بدأت كمدرسة حتى أصبحت كبيرة مفتشات اللغة الإنجليزية، ومن الغريب أنهم في بعض الحالات كانوا يدرسون اللغة العربية باللغة الإنجليزية فيكتبون عن كان وأخواتها Sisters & Can ولم يكن هذا هو الدأب المألوف، إذ كان يدرس لهن العربية شيوخ من الأزهر أو من دار العلوم وكانت الوزارة تريد إحلال النساء محل الرجال في تعليم البنات فعينوا نبوية موسى مدرسة لغة عربية وكان هذا المنصب حكرًا لخريجي دار العلوم أو الأزهر، فجن جنونهم وكتبوا شكوى للناظرة بأنها لا تستطيع تدريس هذه المادة وناقشتها الناظرة فقالت لها نبوية إن أسلوبها أفضل من أسلوبهم ولو كان لديهم نقد فليقدموا تقريرًا عن ذلك ولكنهم رفضوا تقديم مثل هذا التقرير فألزمت الناظرة نبوية موسى أن تقدم هي تقريرًا ينتقد أسلوبهم، فكتبت تقريرًا كشفت فيه عن سوءات طريقة الصرف والنحو المتبعة، وأرسلت الناظرة التقرير إلى وزارة المعارف، وكان وزيرها وقتئذ سعد زغلول وعندما أطلع عليه سر وأمر بطبعه وتوزيعه على جميع مدارس البنات فأسقط في يد الناظرة والمدرسين، ولكنهم أخذوا يتربصون بها، وكانت قد بدأت تكتب في الصحف، فاتصلوا بالناظرة وأكدوا لها أنها تحرض المصريين على كراهية الإنجليز، وقدموا لها أعدادًا من المجلة التي كانت تكتب فيها، وذهبت بها الناظرة إلى وزارة المعارف ولما أطلع سعد زغلول عليها أعجب بها، فخرجت الناظرة بعد أن رأت أن هذه المكيدة الثانية قد جعلت الوزير يعجب بها، بل إن هذا أدى إلى أن يطلبها رئيس الوزراء محمد باشا سعيد لتدريس اللغة العربية لبناته، وحاولت التملص لأنها كانت تعتبر التدريس في المنازل سبه ولو لبنات رئيس الوزراء فما أبعد الأمس عن اليوم، وأين هذا من تكالب المدرسين الآن على الدروس الخصوصية ؟.
فماذا حدث بعد ذلك ؟!
تضايقت نبوية موسى من القيود والبيروقراطية، وحدث أن محمد باشا محمود أسس مدرسة للبنات في الفيوم وعين لها ناظرة إنجليزية، ولكنه اختلف معها فتركته، وعندئذ تذكر محمد باشا محمود اسم نبوية موسى وطلبها لأن تكون ناظرة للمدرسة وقبلت هي هذا العرض متصورة أن مدرسة تخضع لمجلس المديرية تكون أكتر حرية من مدرسة تخضع لوزارة المعارف فقدمت استقالتها، ولكن الوزارة رفضت قبولها ونشأت أزمة، ولكنها تمسكت.
وشمرت نبوية موسى عن ساعد الجد ونفخت روحًا جديدة في المدرسة، ولكنها لم تلبث أن تعرضت لعديد من المتاعب، فقد وجدت مثلا أن أحد شيوخ دار العلوم يقوم بتدريس “التدبير المنزلي” ولم يكن يحسن بالطبع هذا الفن، فغيرته وأعطته برنامجًا في للغة العربية وأحلت محلة فتاة، والغريب أن هذا المدرس بدلاً من يسر بذلك أعلن عليها حربا شعواء لأن هذا حرمه فيما يبدو من تذوق الأطعمة ! واتضح لها أن إدارة المجالس البلدية أسوأ من الوزارة ولهذا فلم يكد يطلبونها لتكون ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة حتى قبلت وانتقلت إلى المنصورة، ولكنها لم تجد الحال أفضل، بل إن التعقيدات أوجدت أزمة ما بين وزارة المعارف ومجالس المديريات ولأن نبوية موسى كانت متشددة في ملاحظة الآداب والبعد عن الشبهات سواء بالنسبة لها أو للطالبات فقد أثارت غضب معظم أعضاء المجالس ومديرها حتى قرروا بإجماع الأصوات إلغاء المدرسة حتى يخلصوا منها، وعلمت هي بنيتهم وأخبرت بها المستر دانلوب، واستبعد مستر دانلوب هذا، فلما قرر المجلس إلغاء المدرسة ” بإجماع الأصوات ” وأبلغته القرار فاتصل بمستشار الداخلية الإنجليزية الذي ثار وطلب قرار الإلغاء فأرسل إليه فشطبه وأمر بإعادة المدرسة فعادت المدرسة “بإجماع الأصوات”.
ومع أنها انتصرت في كثير من هذه المؤامرات إلا أنه لم يكن من الطبيعي أن تواصل الانتصار إلى النهاية، وقد ظهر هذا عندما قررت الوزارة نقلها لتكون وكيلة معلمات بولاق.
وكان من أغرب ما حدث لها أن هذا التعيين كان يتطلب أن تعرض على القومسيون الطبي للتأكد من قوة الأبصار، وكانت نبوية موسى قد سقطت في هذا الاختبار منذ خمس سنوات، فذكرت ذلك لمستشار التعليم الذي لم يهتم وأنا أمرها أن تذهب إلى القومسيون فذهبت وذهب معها مس الجود ووجدت ثلاثة أطباء إنجليز أشار أحدهم إلى العلامة الأولى وسألها فقالت هل نظن أني أراك أنت شخصيا ؟ حتى تسألني على العلامة فقال عجيب إلا تريني قالت نعم فصرفها، ولكن مس الجود لم تخرج معها وظلت برهة مع القومسيون وبعدها قيل أنها نجحت في القومسيون وعينت وكيلة لمدرسة معلمات بولاق !
ولكنها رفضت فحاصروا مدرسة المنصورة بفريق من الجنود الإنجليز الذين منعوا أي واحد من دخول المدرسة وفي الوقت نفسه أخرجوا كل البنات حتى ظلت هي وحدها في المدرسة لثلاث ليال، ووصلت بهم الجرأة إلى اتهامها بالجنون وتحويلها على طبيب إنجليزي، ولكن الرجل لم يجد جنونا واتصل بالمستشار المستر دانلوب الذي قال له إنها ضد الإنجليز فرد الطبيب لماذا لا تعتقلونها وقد اعتقلتم الكثير من المصريين فقال له إنها ذكية جدًا ومحتاطة كل الاحتياط، فقال الطبيب إذا كان ذلك كذلك فليس بها جنون، ولم يجد المستشار حيلة إلا التوسل إلى أخيها وكان قاضيًا، ورجاءه مستشار الداخلية الإنجليزي إقناع أخته بقبول الوظيفة، وقال لها أخوها أن مخالفة ذلك يسئ إليه، فقبلت مرغمة.
الغريب أن مدرسة معلمات بولاق التي عينوها فيها كانت مغلقة وكانت السلطة العسكرية قد استولت على بنيانها، ولكن السلطة تخلت عنها، وفتحت المدرسة أبوابها سنة 1915م، وكان على نبوية موسى أن تكون وكيلة، مع ناظرة إنجليزية، فلم يكن هناك حد للمضايقات التي كانت نبوبة موسى تقف أمامها موقفًا قويًا وصلبًا، وعندما تقرر أن يزور السلطان حسين كامل مدرسة معلمات بولاق أراد مستر دانلوب منها أن تخلع ملابسها السوداء، كما أوفدوا إليها من يعلمها كيف تحيى السلطان، وكان ردها هو الرفض، وأنها ستحيي السلطان التحية المناسبة وتأمروا عليها، ولكنها كانت أذكي منهم بحيث أن السلطان لما زار المدرسة كان فصلها هو الفصل الذي أعجبه وقال لمستر دانلوب ما الذي يمنع هذه السيدة أن تكون ناظرة، وأهداها ساعة يد من الماس بسوار ذهبي.
وكتبت إلى المستشار خطابًا صريحًا، يندد بكل سلبيات الدراسة، وأنها تعتبر هذه الخطاب استقالة، وكان مستر دانلوب يعلم أن هذا لو وصل إلى السلطان لسائله، فأسرع بتعيينها ناظرة مدرسة معلمات الورديان وتكرر في الورديان ما حدث في مدارس سابقة من احتكاكات بموظفي الوزارة أو المفتشين الإنجليزي كأن يعينوا ضابطة فرنسية للتجسس عليها أو يرسلوا إليها معلمًا شاذًا معروف بخلافه مع كل ناظر أو ناظرة، ولكنهم فشلوا، وكانوا يوفدون معلمين إليها ويؤكدون لهم أنهم إذا اشتكوا من الناظرة فإنهم سيلغون النقل ويعيدوهم وظائفهم، ولكن كياسة نبوية موسى أفسدت عليهم مؤامراتهم.
ولم تكن نبوية موسى تؤمن بالإضرابات، ولهذا فعندما أضربت كل المدارس تأييدًا لثورة 1919 أقنعت المدرسين والطالبات بأن مصلحة الوطن هي في تخريج طالبات نابهات متعلمات، وهكذا أضربت كل مدارس الإسكندرية، إلا معلمات الورديان.
لم يكن طبيعيًا أن تستمر نبوية موسى في عملها التربوي كناظرة موظفة لأنها كانت بحكم شخصيتها القوية وتمكنها من مادتها وإيمانها بالتعليم لا تسمح لأي قوة أن تمس ذلك.
والغريب أنهم كانوا ينقمون منها أن أسلوبها التعليمي يجعل طالباتها تفهم المادة تمامًا بحيث يتفوقن على طالبات المدارس الأخرى وكان من الضروري التخلص منها، وكان التبرير الوحيد لهذا الموقف هو أنها كانت الناظرة المصرية الوحيدة، وكل الناظرات إنجليزيات وكانت مدرستها هي الأولى دائمًا.
ولكن نبوية موسى لم تكن تنجو من حفرة حتى تقع في “دحدورة” كما يقولون فقد أرادت السيدات اللاتي اشتركن معها في تأسيس المدرسة تحويلها إلى مشغل ! ورفضت نبوية موسى وقامت بينها حرب ضروس انتصرت فيها واضطرت فيها أن تنقل أثاث المدرسة إلى بيت استأجرته واضطرت إلى تتحايل بكل الطرق حتى تخرج سكانه، ولم تبدأ العمل حتى لاحقتها مناورات الوزارة، وكانت لا تزال على ذمة الوزارة وفي أجازتها المفتوحة، وتوقعت أن تفصلها الوزارة، ولكنها لم تكن معنية بهذا، ولكن بإغلاق المدرسة، ولهذا توصلوا إلى استعادتها مرة أخرى، ولكن كمفتشة التعليم الأولى بالإسكندرية وبعد فترة عينوها كبيرة المفتشات وطلبوا منها إغلاق مدرستها.
أثرت نبوية موسى الاستقالة من الوزارة وتحررت من قيود الوظيفة وبدأت تركز جهدها في مدرستها التي أطلقت عليها أولا ترقية الفتاة ثم فيما بعد بنات الأشراف.
ومع أن نبوية موسى ضحت بكل ثروتها في تكوين مدارس الأشراف، فإنها عندما ماتت لم تترك إلا مدرســتها في الإسكندرية التي تبرعت بها للــوزارة، ومنزل متواضع بحي الشـاطبي وسيارتها الخاصة.
وكان من دلائل همتها أنه كان بين تلميذاتها تلميذة نابغة هي سميرة موسى، وقد أصبحت فيما بعد إحدى عالمات الذرة وأطلقوا عليها “مدام كورى مصر”، وأرادت سميرة موسى بعد أن نالت شهادة الكفاءة وكانت الأولى أن تترك مدرستها لعدم وجود معمل بها، وبدأت في تحويل إدارتها إلى مدرسة الأميرة فوزية، فما أن علمت بذلك نبوية موسى حتى أرسلت إلى والدها الذي جاء واعتذر لها بحاجة سميرة إلى معمل فقالت نبوية: “شرف للمدرسة أن سميرة طالبة بها، ولذلك فقد قررت المدرسة إنشاء معمل من أجل عيون سميرة”.
وإذا كانت المشكلات التربوية قد انتهت بتكوينها لمدارسها التي تحقق فيها سياساتها فإن المشكلات السياسية أساءت إليها فقد كانت نبوية موسى سيدة جادة لا تؤخذ بالحماسات والشعارات وتكره “الديماجوجية”، ولذلك فلم تؤيد حزب الوفد، وعندما وصل الوفد إلى الحكم سنة 1942م، بادر بحرمان مجلة الفتاة من حقها في ورق الطباعة حتى احتجبت عن الصدور، كما قامت بغلق مدارس بنات الأشراف، بل وقبض عليها وقدمت للمحاكمة العسكرية، فلما قضي ببراءتها قامت حكومة الوفد بإغلاق مطبعتها ثم اعتقالها بتهمة انتقاد النحاس باشا ووضعت في السجن فترة ثم أفرج عنها.
وهكذا كانت نهاية هذه المناضلة النبيلة التي كرست كل حياتها لخدمة تعليم البنات والنهضة بهم وخاضت ” ملحمة ” من المعارك مع بيروقراطية وزارة التعليم، وتحيز المستشار الإنجليــزي بوزارة التعليم، ومعارضة الرأي العام التقليدي لتعليم المرأة، لقد قاومت نبوية موسى كل هذه القوى كما يقاومها فارس حقيقي لا يهن، ولا يضعف، ولكن يموت ولا يستسلم*.